بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى
منتديات ستار اليكس Forums Star Alex :: (¯`·._) ( القسم الاسلاامى ) (¯`·._) :: منتدى ستار الاحاديث والسيرة النبوية الشريفة
صفحة 1 من اصل 1
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى
حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره
أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشأم في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال ماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشأم يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل
رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَان )
فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَكَرِيمَة : حَدَّثَنَا الْحَكَم بْن نَافِع , وَهُوَ هُوَ , أَخْبَرَنَا شُعَيْب : هُوَ اِبْن أَبِي حَمْزَة دِينَار الْحِمْصِيُّ , وَهُوَ مِنْ أَثْبَات أَصْحَاب الزُّهْرِيّ .
قَوْله : ( أَنَّ أَبَا سُفْيَان )
هُوَ صَخْر بْن حَرْب بْن أُمَيَّة بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَاف .
قَوْله : ( هِرَقْل )
هُوَ مَلِك الرُّوم , وَهِرَقْل : اِسْمه , وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاء وَفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْقَاف , وَلَقَبه قَيْصَر , كَمَا يُلَقَّب مَلِك الْفُرْس : كِسْرَى وَنَحْوه .
قَوْله : ( فِي رَكْب )
جَمْع رَاكِب كَصَحْبِ وَصَاحِب , وَهُمْ أُولُو الْإِبِل , الْعَشْرَة فَمَا فَوْقهَا . وَالْمَعْنَى : أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَان حَال كَوْنه فِي جُمْلَة الرَّكْب , وَذَاكَ لِأَنَّهُ كَانَ كَبِيرهمْ فَلِهَذَا خَصَّهُ , وَكَانَ عَدَد الرَّكْب ثَلَاثِينَ رَجُلًا , رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْإِكْلِيل . وَلِابْنِ السَّكَن : نَحْو مِنْ عِشْرِينَ , وَسَمَّى مِنْهُمْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة فِي مُصَنَّف اِبْن أَبِي شَيْبَة بِسَنَدٍ مُرْسَل , وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُسْلِمًا . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون رَجَعَ حِينَئِذٍ إِلَى قَيْصَر ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَة مُسْلِمًا . وَقَدْ وَقَعَ ذِكْره أَيْضًا فِي أَثَر آخَر فِي كِتَاب السِّيَر لِأَبِي إِسْحَاق الْفَزَارِيّ , وَكِتَاب الْأَمْوَال لِأَبِي عُبَيْد مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : كَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَر . الْحَدِيث وَفِيهِ : فَلَمَّا قَرَأَ قَيْصَر الْكِتَاب قَالَ : هَذَا كِتَاب لَمْ أَسْمَع بِمِثْلِهِ . وَدَعَا أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة وَكَانَا تَاجِرَيْنِ هُنَاكَ , فَسَأَلَ عَنْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْله : ( وَكَانُوا تُجَّارًا ) بِضَمِّ التَّاء وَتَشْدِيد الْجِيم , أَوْ كَسْرهَا وَالتَّخْفِيفِ جَمْع تَاجِر .
قَوْله : ( فِي الْمُدَّة ) يَعْنِي مُدَّة الصُّلْح بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَسَيَأْتِي شَرْحهَا فِي الْمَغَازِي , وَكَانَتْ فِي سَنَة سِتّ , وَكَانَتْ مُدَّتهَا عَشْر سِنِينَ كَمَا فِي السِّيرَة , وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر , وَلِأَبِي نُعَيْم فِي مُسْنَد عَبْد اللَّه بْن دِينَار : كَانَتْ أَرْبَع سِنِينَ , وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي الْبُيُوع مِنْ الْمُسْتَدْرَك , وَالْأَوَّل أَشْهَر . لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا , فَغَزَاهُمْ سَنَة ثَمَان وَفَتَحَ مَكَّة . وَكُفَّار قُرَيْش بِالنَّصْبِ مَفْعُول مَعَهُ .
قَوْله ( فَأَتَوْهُ ) تَقْدِيره : أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي طَلَب إِتْيَان الرَّكْب فَجَاءَ الرَّسُول يَطْلُب إِتْيَانهمْ فَأَتَوْهُ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصَاك الْحَجَر فَانْفَجَرَتْ ) أَيْ : فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ . وَوَقَعَ عِنْد الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد أَنَّ الرَّسُول وَجَدَهُمْ بِبَعْضِ الشَّام , وَفِي رِوَايَة لِأَبِي نُعَيْم فِي الدَّلَائِل تَعْيِين الْمَوْضِع وَهُوَ غَزَّة . قَالَ : وَكَانَتْ وَجْه مَتْجَرهمْ . وَكَذَا رَوَاهُ اِبْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيّ , وَزَادَ فِي أَوَّله عَنْ أَبِي سُفْيَان قَالَ : كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا , وَكَانَتْ الْحَرْب قَدْ حَصَبَتْنَا , فَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَة خَرَجْت تَاجِرًا إِلَى الشَّام مَعَ رَهْط مِنْ قُرَيْش , فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت بِمَكَّة اِمْرَأَة وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَة . فَذَكَرَهُ . وَفِيهِ : فَقَالَ هِرَقْل لِصَاحِبِ شُرْطَته : قَلِّبْ الشَّام ظَهْرًا لِبَطْنٍ حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْم هَذَا أَسْأَلهُ عَنْ شَأْنه . فَوَاَللَّهِ إِنِّي وَأَصْحَابِي بِغَزَّة , إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا فَسَاقَنَا جَمِيعًا .
قَوْله : ( بِإِيلِيَاء )
بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَة بَعْدهَا يَاء أَخِيرَة سَاكِنَة ثُمَّ لَام مَكْسُورَة ثُمَّ يَاء أَخِيرَة ثُمَّ أَلِف مَهْمُوزَة , وَحَكَى الْبَكْرِيّ فِيهَا الْقَصْر , وَيُقَال لَهَا أَيْضًا إِلْيَا بِحَذْفِ الْيَاء الْأُولَى وَسُكُون اللَّام حَكَاهُ الْبَكْرِيّ , وَحَكَى النَّوَوِيّ مِثْله لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْيَاء عَلَى اللَّام وَاسْتَغْرَبَهُ , قِيلَ : مَعْنَاهُ بَيْت اللَّه . وَفِي الْجِهَاد عِنْد الْمُؤَلِّف أَنَّ هِرَقْل لَمَّا كَشَفَ اللَّه عَنْهُ جُنُود فَارِس مَشَى مِنْ حِمْص إِلَى إِيلِيَاء شُكْرًا لِلَّهِ . زَادَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ كَانَ تُبْسَط لَهُ الْبُسُط وَتُوضَع عَلَيْهَا الرَّيَاحِين فَيَمْشِي عَلَيْهَا , وَنَحْوه لِأَحْمَد مِنْ حَدِيث اِبْن أَخِي الزُّهْرِيّ عَنْ عَمّه . وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن عَبْد الْحَكَم مِنْ طُرُق مُتَعَاضِدَة مُلَخَّصهَا أَنَّ كِسْرَى أَغْزَى جَيْشه بِلَاد هِرَقْل , فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَاده , ثُمَّ اِسْتَبْطَأَ كِسْرَى أَمِيره فَأَرَادَ قَتْله وَتَوْلِيَة غَيْره , فَاطَّلَعَ أَمِيره عَلَى ذَلِكَ فَبَاطَنَ هِرَقْل وَاصْطَلَحَ مَعَهُ عَلَى كِسْرَى وَانْهَزَمَ عَنْهُ بِجُنُودِ فَارِس , فَمَشَى هِرَقْل إِلَى بَيْت الْمَقْدِس شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ . وَاسْم الْأَمِير الْمَذْكُور شهر براز وَاسْم الْغَيْر الَّذِي أَرَادَ كِسْرَى تَأْمِيره فَرْحَان .
قَوْله : ( فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسه )
أَيْ : فِي حَال كَوْنه فِي مَجْلِسه , وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَاد " فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ , فَإِذَا هُوَ جَالِس فِي مَجْلِس مُلْكه وَعَلَيْهِ التَّاج " .
قَوْله : ( وَحَوْله )
بِالنَّصْبِ ; لِأَنَّهُ ظَرْف مَكَان .
قَوْله : ( عُظَمَاء )
جَمْع عَظِيم . وَلِابْنِ السَّكَن : فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ وَعِنْده بَطَارِقَته وَالْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَان وَالرُّوم مِنْ وَلَد عِيص بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام عَلَى الصَّحِيح , وَدَخَلَ فِيهِمْ طَوَائِف مِنْ الْعَرَب مِنْ تَنُوخ وَبَهْرَاء وَسُلَيْح وَغَيْرهمْ مِنْ غَسَّان كَانُوا سُكَّانًا بِالشَّامِ , فَلَمَّا أَجْلَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا دَخَلُوا بِلَاد الرُّوم فَاسْتَوْطَنُوهَا فَاخْتَلَطَتْ أَنْسَابهمْ .
قَوْله : ( ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا تَرْجُمَانه )
وَلِلْمُسْتَمْلِيّ " بِالتَّرْجُمَانِ " مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ , فَلَمَّا حَضَرُوا اسْتَدْنَاهُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ فَيَنْزِل عَلَى هَذَا , وَلَمْ يَقَع تَكْرَار ذَلِكَ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَة . وَالتَّرْجُمَان بِفَتْحِ التَّاء الْمُثَنَّاة وَضَمّ الْجِيم وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيّ فِي شَرْح مُسْلِم , وَيَجُوز ضَمّ التَّاء إِتْبَاعًا , وَيَجُوز فَتْح الْجِيم مَعَ فَتْح أَوَّله حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ , وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِالرَّابِعَةِ وَهِيَ ضَمّ أَوَّله وَفَتْح الْجِيم , وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَغَيْره " بِتَرْجُمَانِهِ " يَعْنِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَحْضَرَهُ صُحْبَته , وَالتَّرْجُمَان الْمُعَبِّر عَنْ لُغَة بِلُغَةٍ , وَهُوَ مُعَرَّب وَقِيلَ عَرَبِيّ .
قَوْله : ( فَقَالَ : أَيّكُمْ أَقْرَب نَسَبًا )
أَيْ : قَالَ التَّرْجُمَان عَلَى لِسَان هِرَقْل .
قَوْله : ( بِهَذَا الرَّجُل )
زَادَ اِبْن السَّكَن : الَّذِي خَرَجَ بِأَرْضِ الْعَرَب يَزْعُم أَنَّهُ نَبِيّ .
قَوْله : ( قُلْت أَنَا أَقْرَبهمْ نَسَبًا )
فِي رِوَايَة اِبْن السَّكَن : فَقَالُوا هَذَا أَقْرَبنَا بِهِ نَسَبًا , هُوَ اِبْن عَمّه أَخِي أَبِيهِ . وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو سُفْيَان أَقْرَب لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْد مَنَافٍ , وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْمُصَنِّف فِي الْجِهَاد بِقَوْلِهِ : قَالَ مَا قَرَابَتك مِنْهُ ؟ قُلْت : هُوَ اِبْن عَمِّي . قَالَ أَبُو سُفْيَان : وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّكْب مِنْ بَنِي عَبْد مَنَاف غَيْرِي ا ه . وَعَبْد مَنَاف الْأَب الرَّابِع لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا لِأَبِي سُفْيَان , وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اِبْن عَمّ لِأَنَّهُ نَزَّلَ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلَة جَدّه , فَعَبْد الْمُطَّلِب بْن هَاشِم بْن عَبْد مَنَاف اِبْن عَمّ أُمَيَّة بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَاف , وَعَلَى هَذَا فَفِيمَا أُطْلِقَ فِي رِوَايَة اِبْن السَّكَن تَجَوُّز , وَإِنَّمَا خَصَّ هِرَقْل الْأَقْرَب لِأَنَّهُ أَحْرَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُوره ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَكْثَر مِنْ غَيْره ; وَلِأَنَّ الْأَبْعَد لَا يُؤْمَن أَنْ يَقْدَح فِي نَسَبه بِخِلَافِ الْأَقْرَب , وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي سُؤَاله بَعْد ذَلِكَ : كَيْفَ نَسَبه فِيكُمْ ؟ وَقَوْله " بِهَذَا الرَّجُل " ضَمَّنَ " أَقْرَب " مَعْنَى " أَوْصَل " فَعَدَّاهُ بِالْبَاءِ , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم " مِنْ هَذَا الرَّجُل " وَهُوَ عَلَى الْأَصْل . وَقَوْله " الَّذِي يَزْعُم " فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ " يَدَّعِي " . وَزَعَمَ : قَالَ الْجَوْهَرِيّ بِمَعْنَى قَالَ , وَحَكَاهُ أَيْضًا ثَعْلَب وَجَمَاعَة كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّة ضِمَام فِي كِتَاب الْعِلْم . قُلْت : وَهُوَ كَثِير وَيَأْتِي مَوْضِع الشَّكّ غَالِبًا .
قَوْله : ( فَاجْعَلُوهُمْ عِنْد ظَهْره )
أَيْ : لِئَلَّا يَسْتَحْيُوا أَنْ يُوَاجِهُوهُ بِالتَّكْذِيبِ إِنْ كَذَبَ , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْوَاقِدِيّ . وَقَوْله " إِنْ كَذَبَنِي " بِتَخْفِيفِ الذَّال أَيْ : إِنْ نَقَلَ إِلَيَّ الْكَذِب .
قَوْله : ( قَالَ ) أَيْ : أَبُو سُفْيَان . وَسَقَطَ لَفْظ قَالَ مِنْ رِوَايَة كَرِيمَة وَأَبِي الْوَقْت فَأَشْكَلَ ظَاهِره , وَبِإِثْبَاتِهَا يَزُول الْإِشْكَال .
قَوْله : ( فَوَاَللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاء مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا )
أَيْ : يَنْقُلُوا عَلَيَّ الْكَذِب لَكَذَبْت عَلَيْهِ . وَلِلْأَصِيلِيِّ عَنْهُ أَيْ : عَنْ الْإِخْبَار بِحَالِهِ . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِب إِمَّا بِالْأَخْذِ عَنْ الشَّرْع السَّابِق , أَوْ بِالْعُرْفِ . وَفِي قَوْله يَأْثِرُوا دُون قَوْله يَكْذِبُوا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا مِنْهُمْ بِعَدَمِ التَّكْذِيب أَنْ لَوْ كَذَبَ لِاشْتِرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي عَدَاوَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اِسْتِحْيَاء وَأَنَفَة مِنْ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ بَعْد أَنْ يَرْجِعُوا فَيَصِير عِنْد سَامِعِي ذَلِكَ كَذَّابًا . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق التَّصْرِيح بِذَلِكَ وَلَفْظه " فَوَاَللَّهِ لَوْ قَدْ كَذَبْت مَا رَدُّوا عَلَيَّ " وَلَكِنِّي كُنْت اِمْرَأً سَيِّدًا أَتَكَرَّم عَنْ الْكَذِب , وَعَلِمْت أَنَّ أَيْسَر مَا فِي ذَلِكَ إِنْ أَنَا كَذَبْته أَنْ يَحْفَظُوا ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ , فَلَمْ أَكْذِبهُ . وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته : قَالَ أَبُو سُفْيَان : فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت مِنْ رَجُل قَطُّ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَقْلَف , يَعْنِي هِرَقْل .
قَوْله : ( كَانَ أَوَّل )
هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَر , وَبِهِ جَاءَتْ الرِّوَايَة , وَيَجُوز رَفْعه عَلَى الْإِسْمِيَّة .
قَوْله : ( كَيْف نَسَبه فِيكُمْ ؟ )
أَيْ : مَا حَال نَسَبه فِيكُمْ , أَهُوَ مِنْ أَشْرَافكُمْ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَب . فَالتَّنْوِين فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ , وَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى بَعْض الشَّارِحِينَ , وَهَذَا وَجْهه .
قَوْله : ( فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْل مِنْكُمْ أَحَد قَطّ قَبْله ؟ )
ولِلْكُشْمِيهَنِيّ وَالْأَصِيلِيّ بَدَل قَبْله " مِثْله " فَقَوْله : مِنْكُمْ أَيْ : مِنْ قَوْمكُمْ يَعْنِي قُرَيْشًا أَوْ الْعَرَب . وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيّ يَعُمّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُخَاطَبِينَ فَقَطْ . وَكَذَا قَوْله فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ وَقَوْله بِمَاذَا يَأْمُركُمْ ؟ وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ بِغَيْرِ أَدَاة النَّفْي وَهُوَ نَادِر , وَمِنْهُ قَوْل عُمَر " صَلَّيْنَا أَكْثَر مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنهُ رَكْعَتَيْنِ " وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِنَّ النَّفْي مُضَمَّن فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ : هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْل أَحَد أَوْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَد قَطُّ .
قَوْله : ( فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِك ؟ )
وَلِكَرِيمَة وَالْأَصِيلِيّ وَأَبِي الْوَقْت بِزِيَادَةِ " مِنْ " الْجَارَّة , وَلِابْنِ عَسَاكِر بِفَتْحِ مِنْ وَمَلَكَ فِعْل مَاضٍ , وَالْجَارَّة أَرْجَح لِسُقُوطِهَا مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ , وَالْمَعْنَى فِي الثَّلَاثَة وَاحِد .
قَوْله : ( فَأَشْرَاف النَّاس اِتَّبَعُوهُ )
فِيهِ إِسْقَاط هَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَهُوَ قَلِيل , وَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِير وَلَفْظه : أَيَتْبَعُهُ أَشْرَاف النَّاس ؟ وَالْمُرَاد بِالْأَشْرَافِ هُنَا أَهْل النَّخْوَة وَالتَّكَبُّر مِنْهُمْ , لَا كُلّ شَرِيف , حَتَّى لَا يَرِدُ مِثْل أَبِي بَكْر وَعُمَر وَأَمْثَالهمَا مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْل هَذَا السُّؤَال . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق : تَبِعَهُ مِنَّا الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين , فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَاب وَالشَّرَف فَمَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ أَحَد . وَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْأَكْثَر الْأَغْلَب .
قَوْله : ( سُخْطَة )
بِضَمّ أَوَّله وَفَتْحِهِ , وَأَخْرَجَ بِهَذَا مَنْ اِرْتَدَّ مُكْرَهًا , أَوْ لَا لِسَخَطٍ لِدِينِ الْإِسْلَام بَلْ لِرَغْبَةٍ فِي غَيْره كَحَظٍّ نَفْسَانِيّ , كَمَا وَقَعَ لِعُبَيْدِ اللَّه بْن جَحْش .
قَوْله : ( هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ ؟ )
أَيْ : عَلَى النَّاس وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى السُّؤَال عَنْ التُّهْمَة عَنْ السُّؤَال عَنْ نَفْس الْكَذِب تَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى صِدْقه ; لِأَنَّ التُّهْمَة إِذَا اِنْتَفَتْ اِنْتَفَى سَبَبهَا , وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ الْغَدْر .
قَوْله : ( وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَة أُدْخِل فِيهَا شَيْئًا )
أَيْ : أَنْتَقِصهُ بِهِ , عَلَى أَنَّ التَّنْقِيص هُنَا أَمْر نِسْبِيّ , وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَقْطَع بِعَدَمِ غَدْره أَرْفَع رُتْبَة مِمَّنْ يُجَوِّز وُقُوع ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْجُمْلَة , وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدهمْ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَغْدِر . وَلَمَّا كَانَ الْأَمْر مَغِيبًا - لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَل - أَمِنَ أَبُو سُفْيَان أَنْ يُنْسَب فِي ذَلِكَ إِلَى الْكَذِب , وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ بِالتَّرَدُّدِ , وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُعَرِّج هِرَقْل عَلَى هَذَا الْقَدْر مِنْهُ . وَقَدْ صَرَّحَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته عَنْ الزُّهْرِيّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ " قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا اِلْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي " . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة مُرْسَلًا " خَرَجَ أَبُو سُفْيَان إِلَى الشَّام - فَذَكَرَ الْحَدِيث , إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَان : هُوَ سَاحِر كَذَّاب . فَقَالَ هِرَقْل : إِنِّي لَا أُرِيد شَتْمه , وَلَكِنْ كَيْفَ نَسَبه - إِلَى أَنْ قَالَ - فَهَلْ يَغْدِر إِذَا عَاهَدَ ؟ قَالَ : لَا , إِلَّا أَنْ يَغْدِر فِي هُدْنَته هَذِهِ . فَقَالَ : وَمَا يَخَاف مِنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ قَوْمِي أَمَدُّوا حُلَفَاءَهُمْ عَلَى حُلَفَائِهِ . قَالَ : إِنْ كُنْتُمْ بَدَأْتُمْ فَأَنْتُمْ أَغْدَر " .
قَوْله : ( سِجَال )
بِكَسْرِ أَوَّله , أَيْ : نُوَب , وَالسَّجْل الدَّلْو , وَالْحَرْب اِسْم جِنْس , وَلِهَذَا جُعِلَ خَبَره اِسْم جَمْع . وَيَنَال أَيْ : يُصِيب , فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ الْمُحَارِبِينَ بِالْمُسْتَقِينَ : يَسْتَقِي هَذَا دَلْوًا وَهَذَا دَلْوًا . وَأَشَارَ أَبُو سُفْيَان بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنهمْ فِي غَزْوَة بَدْر وَغَزْوَة أُحُد , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو سُفْيَان يَوْم أُحُد فِي قَوْله " يَوْم بِيَوْمِ بَدْر , وَالْحَرْب سِجَال " وَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَلْ نَطَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي حَدِيث أَوْس بْن حُذَيْفَة الثَّقَفِيّ لَمَّا كَانَ يُحَدِّث وَفْد ثَقِيف , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره . وَوَقَعَ فِي مُرْسَل عُرْوَة " قَالَ أَبُو سُفْيَان : غُلِبْنَا مَرَّة يَوْم بَدْر وَأَنَا غَائِب , ثُمَّ غَزْوَتهمْ فِي بُيُوتهمْ بِبَقْرِ الْبُطُون وَجَدْع الْآذَان " وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى يَوْم أُحُد .
قَوْله : ( بِمَاذَا يَأْمُركُمْ ) ؟ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الرَّسُول مِنْ شَأْنه أَنْ يَأْمُر قَوْمه .
قَوْله : ( يَقُول اُعْبُدُوا اللَّه وَحْده )
فِيهِ أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَة مَعْرُوفَة ; لِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِهِ " اُعْبُدُوا اللَّه " فِي جَوَاب مَا يَأْمُركُمْ , وَهُوَ مِنْ أَحْسَن الْأَدِلَّة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ; لِأَنَّ أَبَا سُفْيَان مِنْ أَهْل اللِّسَان , وَكَذَلِكَ الرَّاوِي عَنْهُ اِبْن عَبَّاس , بَلْ هُوَ مِنْ أَفْصَحهمْ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُقِرًّا لَهُ .
قَوْله : ( وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا )
سَقَطَ مِنْ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ الْوَاو فَيَكُون تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَحْده .
قَوْله : ( وَاتْرُكُوا مَا يَقُول آبَاؤُكُمْ )
هِيَ كَلِمَة جَامِعَة لِتَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة , وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآبَاء تَنْبِيهًا عَلَى عُذْرهمْ فِي مُخَالَفَتهمْ لَهُ ; لِأَنَّ الْآبَاء قُدْوَة عِنْد الْفَرِيقَيْنِ , أَيْ عَبَدَة الْأَوْثَان وَالنَّصَارَى .
قَوْله : ( وَيَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْق )
وَلِلْمُصَنِّفِ فِي رِوَايَة " الصَّدَقَة " بَدَل الصِّدْق , وَرَجَّحَهَا شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام , وَيُقَوِّيهَا رِوَايَة الْمُؤَلِّف فِي التَّفْسِير " الزَّكَاة " وَاقْتِرَان الصَّلَاة بِالزَّكَاةِ مُعْتَاد فِي الشَّرْع , وَيُرَجِّحهَا أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِب فَذِكْر مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ أَوْلَى . قُلْت : وَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ الْأَمْر بِذَلِكَ مُمْتَنِعًا كَمَا فِي أَمْرهمْ بِوَفَاءِ الْعَهْد وَأَدَاء الْأَمَانَة , وَقَدْ كَانَا مِنْ مَأْلُوف عُقَلَائِهِمْ , وَقَدْ ثَبَتَا عِنْد الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ عَنْ شَيْخه الْكُشْمِيهَنِيّ وَالسَّرَخْسِيّ , قَالَ " بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْق وَالصَّدَقَة " وَفِي قَوْله : يَأْمُرنَا بَعْد قَوْله يَقُول اُعْبُدُوا اللَّه إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمُغَايَرَة بَيْن الْأَمْرَيْنِ لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى مُخَالِفهمَا , إِذْ مُخَالِف الْأَوَّل كَافِر , وَالثَّانِي مِمَّنْ قَبِلَ الْأَوَّل عَاصٍ .
قَوْله : ( فَكَذَلِكَ الرُّسُل تُبْعَث فِي نَسَب قَوْمهَا )
الظَّاهِر أَنَّ إِخْبَار هِرَقْل بِذَلِكَ بِالْجَزْمِ كَانَ عَنْ الْعِلْم الْمُقَرَّر عِنْده فِي الْكُتُب السَّالِفَة .
قَوْله : ( لَقُلْت رَجُل تَأَسَّى بِقَوْلٍ )
كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيّ , وَلِغَيْرِهِ " يَتَأَسَّى " بِتَقْدِيمِ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت , وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هِرَقْل " فَقُلْت " إِلَّا فِي هَذَا وَفِي قَوْله " هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِك " لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ مَقَام فِكْر وَنَظَر , بِخِلَافِ غَيْرهمَا مِنْ الْأَسْئِلَة فَإِنَّهَا مَقَام نَقْل .
قَوْله : ( فَذَكَرْت أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اِتَّبَعُوهُ )
هُوَ بِمَعْنَى قَوْل أَبِي سُفْيَان ضُعَفَاؤُهُمْ , وَمِثْل ذَلِكَ يُتَسَامَح بِهِ لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى . وَقَوْل هِرَقْل " وَهُمْ أَتْبَاع الرُّسُل " مَعْنَاهُ أَنَّ أَتْبَاع الرُّسُل فِي الْغَالِب أَهْل الِاسْتِكَانَة لَا أَهْل الِاسْتِكْبَار الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الشِّقَاق بَغْيًا وَحَسَدًا كَأَبِي جَهْل وَأَشْيَاعه , إِلَى أَنْ أَهْلَكَهُمْ اللَّه تَعَالَى , وَأَنْقَذَ بَعْد حِين مَنْ أَرَادَ سَعَادَته مِنْهُمْ .
قَوْله ( وَكَذَلِكَ الْإِيمَان )
أَيْ : أَمْر الْإِيمَان ; لِأَنَّهُ يُظْهِر نُورًا , ثُمَّ لَا يَزَال فِي زِيَادَة حَتَّى يَتِمّ بِالْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَة فِيهِ مِنْ صَلَاة وَزَكَاة وَصِيَام وَغَيْرهَا , وَلِهَذَا نَزَلَتْ فِي آخِر سِنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) وَمِنْهُ ( وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُتِمّ نُوره ) وَكَذَا جَرَى لِأَتْبَاعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ يَزَالُوا فِي زِيَادَة حَتَّى كَمُلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ اللَّه مِنْ إِظْهَار دِينه وَتَمَام نِعْمَته , فَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة .
قَوْله : ( حِين يُخَالِط بَشَاشَة الْقُلُوب ) .
كَذَا رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّة وَالْقُلُوب مُضَاف إِلَيْهِ , أَيْ : يُخَالِط الْإِيمَان اِنْشِرَاح الصُّدُور , وَرُوِيَ " بَشَاشَة الْقُلُوب " بِالضَّمِّ وَالْقُلُوب مَفْعُول , أَيْ : يُخَالِط بَشَاشَة الْإِيمَان وَهُوَ شَرْحه الْقُلُوب الَّتِي يَدْخُل فِيهَا . زَادَ الْمُصَنِّف فِي الْإِيمَان " لَا يَسْخَطهُ أَحَد " كَمَا تَقَدَّمَ . وَزَادَ اِبْن السَّكَن فِي رِوَايَته فِي مُعْجَم الصَّحَابَة " يَزْدَاد بِهِ عُجْبًا وَفَرَحًا " . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَكَذَلِكَ حَلَاوَة الْإِيمَان لَا تَدْخُل قَلْبًا فَتَخْرُج مِنْهُ " .
قَوْله : ( وَكَذَلِكَ الرُّسُل لَا تَغْدِر )
لِأَنَّهَا لَا تَطْلُب حَظّ الدُّنْيَا الَّذِي لَا يُبَالِي طَالِبه بِالْغَدْرِ , بِخِلَافِ مَنْ طَلَبَ الْآخِرَة . وَلَمْ يُعَرِّج هِرَقْل عَلَى الدَّسِيسَة الَّتِي دَسَّهَا أَبُو سُفْيَان كَمَا تَقَدَّمَ . وَسَقَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَة إِيرَاد تَقْدِير السُّؤَال الْعَاشِر وَاَلَّذِي بَعْده وَجَوَابه , وَقَدْ ثَبَتَ الْجَمِيع فِي رِوَايَة الْمُؤَلِّف الَّتِي فِي الْجِهَاد وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ ثَمَّ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
( فَائِدَة ) :
قَالَ الْمَازِنِيّ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هِرَقْل لَيْسَتْ قَاطِعَة عَلَى النُّبُوَّة , إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ عِنْده عَلَامَات عَلَى هَذَا النَّبِيّ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ بَعْد ذَلِكَ : قَدْ كُنْت أَعْلَم أَنَّهُ خَارِج , وَلَمْ أَكُنْ أَظُنّ أَنَّهُ مِنْكُمْ . وَمَا أَوْرَدَهُ اِحْتِمَالًا جَزَمَ بِهِ اِبْن بَطَّال ; وَهُوَ ظَاهِر .
قَوْله : ( فَذَكَرْت أَنَّهُ يَأْمُركُمْ )
ذَكَرَ ذَلِكَ بِالِاقْتِضَاءِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام أَبِي سُفْيَان ذِكْر الْأَمْر بَلْ صِيغَته . وَقَوْله " وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان " مُسْتَفَاد مِنْ قَوْله " وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَاتْرُكُوا مَا يَقُول آبَاؤُكُمْ " لِأَنَّ مَقُولهمْ الْأَمْر بِعِبَادَةِ الْأَوْثَان .
قَوْله : ( أَخْلُص )
بِضَمِّ اللَّام أَيْ : أَصِل , يُقَال خَلُصَ إِلَى كَذَا أَيْ : وَصَلَ .
قَوْله : ( لَتَجَشَّمْت )
بِالْجِيمِ وَالشِّين الْمُعْجَمَة , أَيْ : تَكَلَّفْت الْوُصُول إِلَيْهِ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّق أَنَّهُ لَا يَسْلَم مِنْ الْقَتْل إِنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاسْتَفَادَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ كَمَا فِي قِصَّة ضُغَاطِر الَّذِي أَظْهَر لَهُمْ إِسْلَامه فَقَتَلُوهُ . وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق ضَعِيف عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ دِحْيَة فِي هَذِهِ الْقِصَّة مُخْتَصَرًا , فَقَالَ قَيْصَر : أَعْرِف أَنَّهُ كَذَلِكَ , وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَفْعَل , إِنْ فَعَلْت ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّوم . وَفِي مُرْسَل اِبْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ هِرَقْل قَالَ : وَيْحك , وَاَللَّه إِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ نَبِيّ مُرْسَل , وَلَكِنِّي أَخَاف الرُّوم عَلَى نَفْسِي , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُهُ . لَكِنْ لَوْ تَفَطَّنَ هِرَقْل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَاب الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ " أَسْلِمْ تَسْلَمْ " وَحَمَلَ الْجَزَاء عَلَى عُمُومه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَسَلِمَ لَوْ أَسْلَمَ مِنْ كُلّ مَا يَخَافهُ . وَلَكِنَّ التَّوْفِيق بِيَدِ اللَّه تَعَالَى قَوْله " لَغَسَلْت عَنْ قَدَمَيْهِ " مُبَالَغَة فِي الْعُبُودِيَّة لَهُ وَالْخِدْمَة . زَادَ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ أَبِي سُفْيَان " لَوْ عَلِمْت أَنَّهُ هُوَ لَمَشَيْت إِلَيْهِ حَتَّى أُقَبِّل رَأْسه وَأَغْسِل قَدَمَيْهِ " وَهِيَ تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَقِيَ عِنْده بَعْض شَكّ . وَزَادَ فِيهَا " وَلَقَدْ رَأَيْت جَبْهَته تَتَحَادَر عَرَقًا مِنْ كَرْب الصَّحِيفَة " يَعْنِي لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي اِقْتِصَاره عَلَى ذِكْر غَسْل الْقَدَمَيْنِ إِشَارَة مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْلُب مِنْهُ - إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ سَالِمًا - لَا وِلَايَة وَلَا مَنْصِبًا , وَإِنَّمَا يَطْلُب مَا تَحْصُل لَهُ بِهِ الْبَرَكَة . وَقَوْله " وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكه مَا تَحْت قَدَمَيَّ " أَيْ : بَيْت الْمَقْدِس , وَكَنَّى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَوْضِع اِسْتِقْرَاره . أَوْ أَرَادَ الشَّام كُلّه لِأَنَّ دَار مَمْلَكَته كَانَتْ حِمْص . وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ هِرَقْل آثَرَ مُلْكه عَلَى الْإِيمَان وَاسْتَمَرَّ عَلَى الضَّلَال أَنَّهُ حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَة مُؤْتَة سَنَة ثَمَان بَعْد هَذِهِ الْقِصَّة بِدُونِ السَّنَتَيْنِ , فَفِي مَغَازِي اِبْن إِسْحَاق : وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا مَعَانَ مِنْ أَرْض الشَّام أَنَّ هِرَقْل نَزَلَ فِي مِائَة أَلْف مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَحَكَى كَيْفِيَّة الْوَقْعَة . وَكَذَا رَوَى اِبْن حِبَّانَ فِي صَحِيحه عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا مِنْ تَبُوك يَدْعُوهُ , وَأَنَّهُ قَارَبَ الْإِجَابَة , وَلَمْ يُجِبْ . فَدَلَّ ظَاهِر ذَلِكَ عَلَى اِسْتِمْرَاره عَلَى الْكُفْر , لَكِنْ يُحْتَمَل مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُضْمِر الْإِيمَان وَيَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِيَ مُرَاعَاة لِمُلْكِهِ وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَقْتُلهُ قَوْمه . إِلَّا أَنَّ فِي مُسْنَد أَحْمَد أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ تَبُوك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي مُسْلِم . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَبَ , بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّته . وَفِي كِتَاب الْأَمْوَال لِأَبِي عُبَيْد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ مُرْسَل بَكْر بْن عَبْد اللَّه الْمُزَنِيّ نَحْوه , وَلَفْظه فَقَالَ : كَذَبَ عَدُوّ اللَّه , لَيْسَ بِمُسْلِمٍ . فَعَلَى هَذَا إِطْلَاق صَاحِب الِاسْتِيعَاب أَنَّهُ آمَنَ - أَيْ : أَظْهَرَ التَّصْدِيق - لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرّ عَلَيْهِ وَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ , بَلْ شَحَّ بِمُلْكِهِ وَآثَرَ الْفَانِيَة عَلَى الْبَاقِيَة . وَاَللَّه الْمُوَفِّق .
قَوْله : ( ثُمَّ دَعَا )
أَيْ : مَنْ وَكَّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ , وَلِهَذَا عُدِّيَ إِلَى الْكِتَاب بِالْبَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( دِحْيَة )
بِكَسْرِ الدَّال , وَحُكِيَ فَتْحهَا لُغَتَانِ , وَيُقَال إِنَّهُ الرَّئِيس بِلُغَةِ أَهْل الْيَمَن , وَهُوَ اِبْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ , صَحَابِيّ جَلِيل كَانَ أَحْسَن النَّاس وَجْهًا , وَأَسْلَمَ قَدِيمًا , وَبَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر سَنَةِ سِتّ بَعْد أَنْ رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَة بِكِتَابِهِ إِلَى هِرَقْل , وَكَانَ وُصُوله إِلَى هِرَقْل فِي الْمُحَرَّم سَنَة سَبْع , قَالَهُ الْوَاقِدِيّ . وَوَقَعَ فِي تَارِيخ خَلِيفَة أَنَّ إِرْسَال الْكِتَاب إِلَى هِرَقْل كَانَ سَنَة خَمْس , وَالْأَوَّل أَثْبَت , بَلْ هَذَا غَلَط لِتَصْرِيحِ أَبِي سُفْيَان بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُدَّة الْهُدْنَة , وَالْهُدْنَة كَانَتْ فِي آخِر سَنَة سِتّ اِتِّفَاقًا , وَمَاتَ دِحْيَة فِي خِلَافَة مُعَاوِيَة . وَبُصْرَى بِضَمِّ أَوَّله وَالْقَصْر مَدِينَة بَيْن الْمَدِينَة وَدِمَشْق , وَقِيلَ هِيَ حَوْرَان , وَعَظِيمهَا هُوَ الْحَارِث بْن أَبِي شَمِر الْغَسَّانِيّ . وَفِي الصَّحَابَة لِابْنِ السَّكَن أَنَّهُ أَرْسَلَ بِكِتَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل مَعَ عَدِيّ بْن حَاتِم , وَكَانَ عَدِيّ إِذْ ذَاكَ نَصْرَانِيًّا , فَوَصَلَ بِهِ هُوَ وَدِحْيَة مَعًا , وَكَانَتْ وَفَاة الْحَارِث الْمَذْكُور عَام الْفَتْح .
قَوْله : ( مِنْ مُحَمَّد )
فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنْ يَبْدَأ الْكِتَاب بِنَفْسِهِ , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور , بَلْ حَكَى فِيهِ النَّحَّاس إِجْمَاع الصَّحَابَة . وَالْحَقّ إِثْبَات الْخِلَاف . وَفِيهِ أَنَّ " مِنْ " الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَة تَأْتِي مِنْ غَيْر الزَّمَان وَالْمَكَان كَذَا قَالَهُ أَبُو حَيَّان , وَالظَّاهِر أَنَّهَا هُنَا أَيْضًا لَمْ تَخْرُج مِنْ ذَلِكَ , لَكِنْ بِارْتِكَابِ مَجَاز . زَادَ فِي حَدِيث دِحْيَة : وَعِنْدهُ اِبْن أَخ لَهُ أَحْمَر أَزْرَق سَبْط الرَّأْس . وَفِيهِ : لَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب سَخِرَ فَقَالَ : لَا تَقْرَأْهُ , إِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ . فَقَالَ قَيْصَر : لَتَقْرَأَنَّهُ . فَقَرَأَهُ . وَقَدْ ذَكَرَ الْبَزَّار فِي مُسْنَده عَنْ دِحْيَة الْكَلْبِيّ أَنَّهُ هُوَ نَاوَلَ الْكِتَاب لِقَيْصَر , وَلَفْظه " بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ إِلَى قَيْصَر فَأَعْطَيْته الْكِتَاب " .
قَوْله ( عَظِيم الرُّوم )
فِيهِ عُدُول عَنْ ذِكْره بِالْمُلْكِ أَوْ الْإِمْرَة ; لِأَنَّهُ مَعْزُول بِحُكْمِ الْإِسْلَام , لَكِنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إِكْرَام لِمَصْلَحَةِ التَّأَلُّف . وَفِي حَدِيث دِحْيَة أَنَّ اِبْن أَخِي قَيْصَر أَنْكَرَ أَيْضًا كَوْنه لَمْ يَقُلْ مَلِك الرُّوم .
قَوْله : ( سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى )
فِي رِوَايَة الْمُصَنِّف فِي الِاسْتِئْذَان " السَّلَام " بِالتَّعْرِيفِ . وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي قِصَّة مُوسَى وَهَارُون مَعَ فِرْعَوْن . وَظَاهِر السِّيَاق يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَة مَا أُمِرَا بِهِ أَنْ يَقُولَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يُبْدَأ الْكَافِر بِالسَّلَامِ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : لَيْسَ الْمُرَاد مِنْ هَذَا التَّحِيَّة , إِنَّمَا مَعْنَاهُ سَلِمَ مِنْ عَذَاب اللَّه مَنْ أَسْلَمَ . وَلِهَذَا جَاءَ بَعْده أَنَّ الْعَذَاب عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى . وَكَذَا جَاءَ فِي بَقِيَّة هَذَا الْكِتَاب " فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ " . فَمُحَصَّل الْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَبْدَأ الْكَافِر بِالسَّلَامِ قَصْدًا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظ يُشْعِر بِهِ , لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْمُرَاد لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى فَلَمْ يُسَلِّم عَلَيْهِ .
قَوْله : ( أَمَّا بَعْد )
فِي قَوْله " أَمَّا " مَعْنَى الشَّرْط , وَتُسْتَعْمَل لِتَفْصِيلِ مَا يُذْكَر بَعْدهَا غَالِبًا , وَقَدْ تَرِد مُسْتَأْنَفَة لَا لِتَفْصِيلٍ كَاَلَّتِي هُنَا , وَلِلتَّفْصِيلِ وَالتَّقْرِير , وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : هِيَ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ وَتَقْدِيره : أَمَّا الِابْتِدَاء فَهُوَ اِسْم اللَّه , وَأَمَّا الْمَكْتُوب فَهُوَ مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه . . إِلَخْ , كَذَا قَالَ . وَلَفْظه " بَعْد " مَبْنِيَّة عَلَى الضَّمّ , وَكَانَ الْأَصْل أَنْ تُفْتَح لَوْ اِسْتَمَرَّتْ عَلَى الْإِضَافَة , لَكِنَّهَا قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَة فَبُنِيَتْ عَلَى الضَّمّ , وَسَيَأْتِي مَزِيد فِي الْكَلَام عَلَيْهَا فِي كِتَاب الْجُمُعَة .
قَوْله : ( بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام )
بِكَسْرِ الدَّال , مِنْ قَوْلك دَعَا يَدْعُو دِعَايَة نَحْو شَكَا يَشْكُو شِكَايَة . وَلِمُسْلِمٍ " بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَام " أَيْ : بِالْكَلِمَةِ الدَّاعِيَة إِلَى الْإِسْلَام , وَهِيَ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , وَالْبَاء مَوْضِع إِلَى . وَقَوْله " أَسْلِمْ تَسْلَمْ " غَايَة فِي الْبَلَاغ , وَفِيهِ نَوْع مِنْ الْبَدِيع وَهُوَ الْجِنَاس الِاشْتِقَاقِيّ .
قَوْله : ( يُؤْتِك )
جَوَاب ثَانٍ لِلْأَمْرِ . وَفِي الْجِهَاد لِلْمُؤَلِّفِ " أَسْلِمْ أَسْلِمْ يُؤْتِك " بِتَكْرَارِ أَسْلِمْ , فَيُحْتَمَل التَّأْكِيد , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْأَمْر الْأَوَّل لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام وَالثَّانِي لِلدَّوَامِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله ) الْآيَة . وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ ) الْآيَة . وَإِعْطَاؤُهُ الْأَجْر مَرَّتَيْنِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون تَضْعِيف الْأَجْر لَهُ مِنْ جِهَة إِسْلَامه وَمِنْ جِهَة أَنَّ إِسْلَامه يَكُون سَبَبًا لِدُخُولِ أَتْبَاعه . وَسَيَأْتِي التَّصْرِيح بِذَلِكَ فِي مَوْضِعه مِنْ حَدِيث الشَّعْبِيّ مِنْ كِتَاب الْعِلْم إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام أَنَّ كُلّ مَنْ دَانَ بِدِينِ أَهْل الْكِتَاب كَانَ فِي حُكْمهمْ فِي الْمُنَاكَحَة وَالذَّبَائِح ; لِأَنَّ هِرَقْل هُوَ وَقَوْمه لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , وَهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّة بَعْد التَّبْدِيل . وَقَدْ قَالَ لَهُ وَلِقَوْمِهِ ( يَا أَهْل الْكِتَاب ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ حُكْم أَهْل الْكِتَاب , خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَوْ بِمَنْ عُلِمَ أَنَّ سَلَفه مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّة أَوْ النَّصْرَانِيَّة قَبْل التَّبْدِيل . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَإِنْ تَوَلَّيْت )
أَيْ : أَعْرَضْت عَنْ الْإِجَابَة إِلَى الدُّخُول فِي الْإِسْلَام . وَحَقِيقَة التَّوَلِّي إِنَّمَا هُوَ بِالْوَجْهِ , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِعْرَاض عَنْ الشَّيْء , وَهِيَ اِسْتِعَارَة تَبَعِيَّة .
قَوْله : ( الْأَرِيسِيِّينَ )
هُوَ جَمْع أَرِيسِيّ , وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى أَرِيس بِوَزْنِ فَعِيل , وَقَدْ تُقْلَب هَمْزَته يَاء كَمَا جَاءَتْ بِهِ رِوَايَة أَبِي ذَرّ وَالْأَصِيلِيّ وَغَيْرهمَا هُنَا , قَالَ اِبْن سِيده : الْأَرِيس الْأَكَّار , أَيْ : الْفَلَّاح عِنْد ثَعْلَب , وَعِنْد كُرَاع : الْأَرِيس هُوَ الْأَمِير , وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : هِيَ لُغَة شَامِيَّة , وَأَنْكَرَ اِبْن فَارِس أَنْ تَكُون عَرَبِيَّة , وَقِيلَ فِي تَفْسِيره غَيْر ذَلِكَ لَكِنْ هَذَا هُوَ الصَّحِيح هُنَا , فَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ بِلَفْظِ " فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَكَّارِينَ " زَادَ الْبَرْقَانِيّ فِي رِوَايَته : يَعْنِي الْحَرَّاثِينَ , وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا مَا فِي رِوَايَة الْمَدَائِنِيّ مِنْ طَرِيق مُرْسَلَة " فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْفَلَّاحِينَ " , وَكَذَا عِنْد أَبِي عُبَيْد فِي كِتَاب الْأَمْوَال مِنْ مُرْسَل عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد " وَإِنْ لَمْ تَدْخُل فِي الْإِسْلَام فَلَا تَحُلْ بَيْن الْفَلَّاحِينَ وَبَيْن الْإِسْلَام " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمُرَاد بِالْفَلَّاحِينَ أَهْل مَمْلَكَته ; لِأَنَّ كُلّ مَنْ كَانَ يَزْرَع فَهُوَ عِنْد الْعَرَب فَلَّاح , سَوَاء كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ . قَالَ الْخَطَّابِيّ : أَرَادَ أَنَّ عَلَيْك إِثْم الضُّعَفَاء وَالْأَتْبَاع إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا تَقْلِيدًا لَه
أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشأم في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال ماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشأم يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل
رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَان )
فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَكَرِيمَة : حَدَّثَنَا الْحَكَم بْن نَافِع , وَهُوَ هُوَ , أَخْبَرَنَا شُعَيْب : هُوَ اِبْن أَبِي حَمْزَة دِينَار الْحِمْصِيُّ , وَهُوَ مِنْ أَثْبَات أَصْحَاب الزُّهْرِيّ .
قَوْله : ( أَنَّ أَبَا سُفْيَان )
هُوَ صَخْر بْن حَرْب بْن أُمَيَّة بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَاف .
قَوْله : ( هِرَقْل )
هُوَ مَلِك الرُّوم , وَهِرَقْل : اِسْمه , وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاء وَفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْقَاف , وَلَقَبه قَيْصَر , كَمَا يُلَقَّب مَلِك الْفُرْس : كِسْرَى وَنَحْوه .
قَوْله : ( فِي رَكْب )
جَمْع رَاكِب كَصَحْبِ وَصَاحِب , وَهُمْ أُولُو الْإِبِل , الْعَشْرَة فَمَا فَوْقهَا . وَالْمَعْنَى : أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَان حَال كَوْنه فِي جُمْلَة الرَّكْب , وَذَاكَ لِأَنَّهُ كَانَ كَبِيرهمْ فَلِهَذَا خَصَّهُ , وَكَانَ عَدَد الرَّكْب ثَلَاثِينَ رَجُلًا , رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْإِكْلِيل . وَلِابْنِ السَّكَن : نَحْو مِنْ عِشْرِينَ , وَسَمَّى مِنْهُمْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة فِي مُصَنَّف اِبْن أَبِي شَيْبَة بِسَنَدٍ مُرْسَل , وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُسْلِمًا . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون رَجَعَ حِينَئِذٍ إِلَى قَيْصَر ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَة مُسْلِمًا . وَقَدْ وَقَعَ ذِكْره أَيْضًا فِي أَثَر آخَر فِي كِتَاب السِّيَر لِأَبِي إِسْحَاق الْفَزَارِيّ , وَكِتَاب الْأَمْوَال لِأَبِي عُبَيْد مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : كَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَر . الْحَدِيث وَفِيهِ : فَلَمَّا قَرَأَ قَيْصَر الْكِتَاب قَالَ : هَذَا كِتَاب لَمْ أَسْمَع بِمِثْلِهِ . وَدَعَا أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة وَكَانَا تَاجِرَيْنِ هُنَاكَ , فَسَأَلَ عَنْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْله : ( وَكَانُوا تُجَّارًا ) بِضَمِّ التَّاء وَتَشْدِيد الْجِيم , أَوْ كَسْرهَا وَالتَّخْفِيفِ جَمْع تَاجِر .
قَوْله : ( فِي الْمُدَّة ) يَعْنِي مُدَّة الصُّلْح بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَسَيَأْتِي شَرْحهَا فِي الْمَغَازِي , وَكَانَتْ فِي سَنَة سِتّ , وَكَانَتْ مُدَّتهَا عَشْر سِنِينَ كَمَا فِي السِّيرَة , وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر , وَلِأَبِي نُعَيْم فِي مُسْنَد عَبْد اللَّه بْن دِينَار : كَانَتْ أَرْبَع سِنِينَ , وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي الْبُيُوع مِنْ الْمُسْتَدْرَك , وَالْأَوَّل أَشْهَر . لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا , فَغَزَاهُمْ سَنَة ثَمَان وَفَتَحَ مَكَّة . وَكُفَّار قُرَيْش بِالنَّصْبِ مَفْعُول مَعَهُ .
قَوْله ( فَأَتَوْهُ ) تَقْدِيره : أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي طَلَب إِتْيَان الرَّكْب فَجَاءَ الرَّسُول يَطْلُب إِتْيَانهمْ فَأَتَوْهُ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصَاك الْحَجَر فَانْفَجَرَتْ ) أَيْ : فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ . وَوَقَعَ عِنْد الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد أَنَّ الرَّسُول وَجَدَهُمْ بِبَعْضِ الشَّام , وَفِي رِوَايَة لِأَبِي نُعَيْم فِي الدَّلَائِل تَعْيِين الْمَوْضِع وَهُوَ غَزَّة . قَالَ : وَكَانَتْ وَجْه مَتْجَرهمْ . وَكَذَا رَوَاهُ اِبْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيّ , وَزَادَ فِي أَوَّله عَنْ أَبِي سُفْيَان قَالَ : كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا , وَكَانَتْ الْحَرْب قَدْ حَصَبَتْنَا , فَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَة خَرَجْت تَاجِرًا إِلَى الشَّام مَعَ رَهْط مِنْ قُرَيْش , فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت بِمَكَّة اِمْرَأَة وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَة . فَذَكَرَهُ . وَفِيهِ : فَقَالَ هِرَقْل لِصَاحِبِ شُرْطَته : قَلِّبْ الشَّام ظَهْرًا لِبَطْنٍ حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْم هَذَا أَسْأَلهُ عَنْ شَأْنه . فَوَاَللَّهِ إِنِّي وَأَصْحَابِي بِغَزَّة , إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا فَسَاقَنَا جَمِيعًا .
قَوْله : ( بِإِيلِيَاء )
بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَة بَعْدهَا يَاء أَخِيرَة سَاكِنَة ثُمَّ لَام مَكْسُورَة ثُمَّ يَاء أَخِيرَة ثُمَّ أَلِف مَهْمُوزَة , وَحَكَى الْبَكْرِيّ فِيهَا الْقَصْر , وَيُقَال لَهَا أَيْضًا إِلْيَا بِحَذْفِ الْيَاء الْأُولَى وَسُكُون اللَّام حَكَاهُ الْبَكْرِيّ , وَحَكَى النَّوَوِيّ مِثْله لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْيَاء عَلَى اللَّام وَاسْتَغْرَبَهُ , قِيلَ : مَعْنَاهُ بَيْت اللَّه . وَفِي الْجِهَاد عِنْد الْمُؤَلِّف أَنَّ هِرَقْل لَمَّا كَشَفَ اللَّه عَنْهُ جُنُود فَارِس مَشَى مِنْ حِمْص إِلَى إِيلِيَاء شُكْرًا لِلَّهِ . زَادَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ كَانَ تُبْسَط لَهُ الْبُسُط وَتُوضَع عَلَيْهَا الرَّيَاحِين فَيَمْشِي عَلَيْهَا , وَنَحْوه لِأَحْمَد مِنْ حَدِيث اِبْن أَخِي الزُّهْرِيّ عَنْ عَمّه . وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن عَبْد الْحَكَم مِنْ طُرُق مُتَعَاضِدَة مُلَخَّصهَا أَنَّ كِسْرَى أَغْزَى جَيْشه بِلَاد هِرَقْل , فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَاده , ثُمَّ اِسْتَبْطَأَ كِسْرَى أَمِيره فَأَرَادَ قَتْله وَتَوْلِيَة غَيْره , فَاطَّلَعَ أَمِيره عَلَى ذَلِكَ فَبَاطَنَ هِرَقْل وَاصْطَلَحَ مَعَهُ عَلَى كِسْرَى وَانْهَزَمَ عَنْهُ بِجُنُودِ فَارِس , فَمَشَى هِرَقْل إِلَى بَيْت الْمَقْدِس شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ . وَاسْم الْأَمِير الْمَذْكُور شهر براز وَاسْم الْغَيْر الَّذِي أَرَادَ كِسْرَى تَأْمِيره فَرْحَان .
قَوْله : ( فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسه )
أَيْ : فِي حَال كَوْنه فِي مَجْلِسه , وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَاد " فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ , فَإِذَا هُوَ جَالِس فِي مَجْلِس مُلْكه وَعَلَيْهِ التَّاج " .
قَوْله : ( وَحَوْله )
بِالنَّصْبِ ; لِأَنَّهُ ظَرْف مَكَان .
قَوْله : ( عُظَمَاء )
جَمْع عَظِيم . وَلِابْنِ السَّكَن : فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ وَعِنْده بَطَارِقَته وَالْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَان وَالرُّوم مِنْ وَلَد عِيص بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام عَلَى الصَّحِيح , وَدَخَلَ فِيهِمْ طَوَائِف مِنْ الْعَرَب مِنْ تَنُوخ وَبَهْرَاء وَسُلَيْح وَغَيْرهمْ مِنْ غَسَّان كَانُوا سُكَّانًا بِالشَّامِ , فَلَمَّا أَجْلَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا دَخَلُوا بِلَاد الرُّوم فَاسْتَوْطَنُوهَا فَاخْتَلَطَتْ أَنْسَابهمْ .
قَوْله : ( ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا تَرْجُمَانه )
وَلِلْمُسْتَمْلِيّ " بِالتَّرْجُمَانِ " مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ , فَلَمَّا حَضَرُوا اسْتَدْنَاهُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ ثُمَّ دَعَاهُمْ فَيَنْزِل عَلَى هَذَا , وَلَمْ يَقَع تَكْرَار ذَلِكَ إِلَّا فِي هَذِهِ الرِّوَايَة . وَالتَّرْجُمَان بِفَتْحِ التَّاء الْمُثَنَّاة وَضَمّ الْجِيم وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيّ فِي شَرْح مُسْلِم , وَيَجُوز ضَمّ التَّاء إِتْبَاعًا , وَيَجُوز فَتْح الْجِيم مَعَ فَتْح أَوَّله حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ , وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِالرَّابِعَةِ وَهِيَ ضَمّ أَوَّله وَفَتْح الْجِيم , وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَغَيْره " بِتَرْجُمَانِهِ " يَعْنِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَحْضَرَهُ صُحْبَته , وَالتَّرْجُمَان الْمُعَبِّر عَنْ لُغَة بِلُغَةٍ , وَهُوَ مُعَرَّب وَقِيلَ عَرَبِيّ .
قَوْله : ( فَقَالَ : أَيّكُمْ أَقْرَب نَسَبًا )
أَيْ : قَالَ التَّرْجُمَان عَلَى لِسَان هِرَقْل .
قَوْله : ( بِهَذَا الرَّجُل )
زَادَ اِبْن السَّكَن : الَّذِي خَرَجَ بِأَرْضِ الْعَرَب يَزْعُم أَنَّهُ نَبِيّ .
قَوْله : ( قُلْت أَنَا أَقْرَبهمْ نَسَبًا )
فِي رِوَايَة اِبْن السَّكَن : فَقَالُوا هَذَا أَقْرَبنَا بِهِ نَسَبًا , هُوَ اِبْن عَمّه أَخِي أَبِيهِ . وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو سُفْيَان أَقْرَب لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْد مَنَافٍ , وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْمُصَنِّف فِي الْجِهَاد بِقَوْلِهِ : قَالَ مَا قَرَابَتك مِنْهُ ؟ قُلْت : هُوَ اِبْن عَمِّي . قَالَ أَبُو سُفْيَان : وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّكْب مِنْ بَنِي عَبْد مَنَاف غَيْرِي ا ه . وَعَبْد مَنَاف الْأَب الرَّابِع لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا لِأَبِي سُفْيَان , وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اِبْن عَمّ لِأَنَّهُ نَزَّلَ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلَة جَدّه , فَعَبْد الْمُطَّلِب بْن هَاشِم بْن عَبْد مَنَاف اِبْن عَمّ أُمَيَّة بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَاف , وَعَلَى هَذَا فَفِيمَا أُطْلِقَ فِي رِوَايَة اِبْن السَّكَن تَجَوُّز , وَإِنَّمَا خَصَّ هِرَقْل الْأَقْرَب لِأَنَّهُ أَحْرَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُوره ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَكْثَر مِنْ غَيْره ; وَلِأَنَّ الْأَبْعَد لَا يُؤْمَن أَنْ يَقْدَح فِي نَسَبه بِخِلَافِ الْأَقْرَب , وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي سُؤَاله بَعْد ذَلِكَ : كَيْفَ نَسَبه فِيكُمْ ؟ وَقَوْله " بِهَذَا الرَّجُل " ضَمَّنَ " أَقْرَب " مَعْنَى " أَوْصَل " فَعَدَّاهُ بِالْبَاءِ , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم " مِنْ هَذَا الرَّجُل " وَهُوَ عَلَى الْأَصْل . وَقَوْله " الَّذِي يَزْعُم " فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ " يَدَّعِي " . وَزَعَمَ : قَالَ الْجَوْهَرِيّ بِمَعْنَى قَالَ , وَحَكَاهُ أَيْضًا ثَعْلَب وَجَمَاعَة كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّة ضِمَام فِي كِتَاب الْعِلْم . قُلْت : وَهُوَ كَثِير وَيَأْتِي مَوْضِع الشَّكّ غَالِبًا .
قَوْله : ( فَاجْعَلُوهُمْ عِنْد ظَهْره )
أَيْ : لِئَلَّا يَسْتَحْيُوا أَنْ يُوَاجِهُوهُ بِالتَّكْذِيبِ إِنْ كَذَبَ , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْوَاقِدِيّ . وَقَوْله " إِنْ كَذَبَنِي " بِتَخْفِيفِ الذَّال أَيْ : إِنْ نَقَلَ إِلَيَّ الْكَذِب .
قَوْله : ( قَالَ ) أَيْ : أَبُو سُفْيَان . وَسَقَطَ لَفْظ قَالَ مِنْ رِوَايَة كَرِيمَة وَأَبِي الْوَقْت فَأَشْكَلَ ظَاهِره , وَبِإِثْبَاتِهَا يَزُول الْإِشْكَال .
قَوْله : ( فَوَاَللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاء مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا )
أَيْ : يَنْقُلُوا عَلَيَّ الْكَذِب لَكَذَبْت عَلَيْهِ . وَلِلْأَصِيلِيِّ عَنْهُ أَيْ : عَنْ الْإِخْبَار بِحَالِهِ . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِب إِمَّا بِالْأَخْذِ عَنْ الشَّرْع السَّابِق , أَوْ بِالْعُرْفِ . وَفِي قَوْله يَأْثِرُوا دُون قَوْله يَكْذِبُوا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا مِنْهُمْ بِعَدَمِ التَّكْذِيب أَنْ لَوْ كَذَبَ لِاشْتِرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي عَدَاوَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اِسْتِحْيَاء وَأَنَفَة مِنْ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ بَعْد أَنْ يَرْجِعُوا فَيَصِير عِنْد سَامِعِي ذَلِكَ كَذَّابًا . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق التَّصْرِيح بِذَلِكَ وَلَفْظه " فَوَاَللَّهِ لَوْ قَدْ كَذَبْت مَا رَدُّوا عَلَيَّ " وَلَكِنِّي كُنْت اِمْرَأً سَيِّدًا أَتَكَرَّم عَنْ الْكَذِب , وَعَلِمْت أَنَّ أَيْسَر مَا فِي ذَلِكَ إِنْ أَنَا كَذَبْته أَنْ يَحْفَظُوا ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ , فَلَمْ أَكْذِبهُ . وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته : قَالَ أَبُو سُفْيَان : فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت مِنْ رَجُل قَطُّ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَقْلَف , يَعْنِي هِرَقْل .
قَوْله : ( كَانَ أَوَّل )
هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَر , وَبِهِ جَاءَتْ الرِّوَايَة , وَيَجُوز رَفْعه عَلَى الْإِسْمِيَّة .
قَوْله : ( كَيْف نَسَبه فِيكُمْ ؟ )
أَيْ : مَا حَال نَسَبه فِيكُمْ , أَهُوَ مِنْ أَشْرَافكُمْ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَب . فَالتَّنْوِين فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ , وَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى بَعْض الشَّارِحِينَ , وَهَذَا وَجْهه .
قَوْله : ( فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْل مِنْكُمْ أَحَد قَطّ قَبْله ؟ )
ولِلْكُشْمِيهَنِيّ وَالْأَصِيلِيّ بَدَل قَبْله " مِثْله " فَقَوْله : مِنْكُمْ أَيْ : مِنْ قَوْمكُمْ يَعْنِي قُرَيْشًا أَوْ الْعَرَب . وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الشَّافِعِيّ يَعُمّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُخَاطَبِينَ فَقَطْ . وَكَذَا قَوْله فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ وَقَوْله بِمَاذَا يَأْمُركُمْ ؟ وَاسْتَعْمَلَ قَطُّ بِغَيْرِ أَدَاة النَّفْي وَهُوَ نَادِر , وَمِنْهُ قَوْل عُمَر " صَلَّيْنَا أَكْثَر مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنهُ رَكْعَتَيْنِ " وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِنَّ النَّفْي مُضَمَّن فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ : هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْل أَحَد أَوْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَد قَطُّ .
قَوْله : ( فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِك ؟ )
وَلِكَرِيمَة وَالْأَصِيلِيّ وَأَبِي الْوَقْت بِزِيَادَةِ " مِنْ " الْجَارَّة , وَلِابْنِ عَسَاكِر بِفَتْحِ مِنْ وَمَلَكَ فِعْل مَاضٍ , وَالْجَارَّة أَرْجَح لِسُقُوطِهَا مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ , وَالْمَعْنَى فِي الثَّلَاثَة وَاحِد .
قَوْله : ( فَأَشْرَاف النَّاس اِتَّبَعُوهُ )
فِيهِ إِسْقَاط هَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَهُوَ قَلِيل , وَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِير وَلَفْظه : أَيَتْبَعُهُ أَشْرَاف النَّاس ؟ وَالْمُرَاد بِالْأَشْرَافِ هُنَا أَهْل النَّخْوَة وَالتَّكَبُّر مِنْهُمْ , لَا كُلّ شَرِيف , حَتَّى لَا يَرِدُ مِثْل أَبِي بَكْر وَعُمَر وَأَمْثَالهمَا مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْل هَذَا السُّؤَال . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق : تَبِعَهُ مِنَّا الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين , فَأَمَّا ذَوُو الْأَنْسَاب وَالشَّرَف فَمَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ أَحَد . وَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْأَكْثَر الْأَغْلَب .
قَوْله : ( سُخْطَة )
بِضَمّ أَوَّله وَفَتْحِهِ , وَأَخْرَجَ بِهَذَا مَنْ اِرْتَدَّ مُكْرَهًا , أَوْ لَا لِسَخَطٍ لِدِينِ الْإِسْلَام بَلْ لِرَغْبَةٍ فِي غَيْره كَحَظٍّ نَفْسَانِيّ , كَمَا وَقَعَ لِعُبَيْدِ اللَّه بْن جَحْش .
قَوْله : ( هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ ؟ )
أَيْ : عَلَى النَّاس وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى السُّؤَال عَنْ التُّهْمَة عَنْ السُّؤَال عَنْ نَفْس الْكَذِب تَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى صِدْقه ; لِأَنَّ التُّهْمَة إِذَا اِنْتَفَتْ اِنْتَفَى سَبَبهَا , وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ الْغَدْر .
قَوْله : ( وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَة أُدْخِل فِيهَا شَيْئًا )
أَيْ : أَنْتَقِصهُ بِهِ , عَلَى أَنَّ التَّنْقِيص هُنَا أَمْر نِسْبِيّ , وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَقْطَع بِعَدَمِ غَدْره أَرْفَع رُتْبَة مِمَّنْ يُجَوِّز وُقُوع ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْجُمْلَة , وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدهمْ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَغْدِر . وَلَمَّا كَانَ الْأَمْر مَغِيبًا - لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَل - أَمِنَ أَبُو سُفْيَان أَنْ يُنْسَب فِي ذَلِكَ إِلَى الْكَذِب , وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ بِالتَّرَدُّدِ , وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُعَرِّج هِرَقْل عَلَى هَذَا الْقَدْر مِنْهُ . وَقَدْ صَرَّحَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته عَنْ الزُّهْرِيّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ " قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا اِلْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي " . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة مُرْسَلًا " خَرَجَ أَبُو سُفْيَان إِلَى الشَّام - فَذَكَرَ الْحَدِيث , إِلَى أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَان : هُوَ سَاحِر كَذَّاب . فَقَالَ هِرَقْل : إِنِّي لَا أُرِيد شَتْمه , وَلَكِنْ كَيْفَ نَسَبه - إِلَى أَنْ قَالَ - فَهَلْ يَغْدِر إِذَا عَاهَدَ ؟ قَالَ : لَا , إِلَّا أَنْ يَغْدِر فِي هُدْنَته هَذِهِ . فَقَالَ : وَمَا يَخَاف مِنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ قَوْمِي أَمَدُّوا حُلَفَاءَهُمْ عَلَى حُلَفَائِهِ . قَالَ : إِنْ كُنْتُمْ بَدَأْتُمْ فَأَنْتُمْ أَغْدَر " .
قَوْله : ( سِجَال )
بِكَسْرِ أَوَّله , أَيْ : نُوَب , وَالسَّجْل الدَّلْو , وَالْحَرْب اِسْم جِنْس , وَلِهَذَا جُعِلَ خَبَره اِسْم جَمْع . وَيَنَال أَيْ : يُصِيب , فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ الْمُحَارِبِينَ بِالْمُسْتَقِينَ : يَسْتَقِي هَذَا دَلْوًا وَهَذَا دَلْوًا . وَأَشَارَ أَبُو سُفْيَان بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنهمْ فِي غَزْوَة بَدْر وَغَزْوَة أُحُد , وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو سُفْيَان يَوْم أُحُد فِي قَوْله " يَوْم بِيَوْمِ بَدْر , وَالْحَرْب سِجَال " وَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَلْ نَطَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي حَدِيث أَوْس بْن حُذَيْفَة الثَّقَفِيّ لَمَّا كَانَ يُحَدِّث وَفْد ثَقِيف , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَغَيْره . وَوَقَعَ فِي مُرْسَل عُرْوَة " قَالَ أَبُو سُفْيَان : غُلِبْنَا مَرَّة يَوْم بَدْر وَأَنَا غَائِب , ثُمَّ غَزْوَتهمْ فِي بُيُوتهمْ بِبَقْرِ الْبُطُون وَجَدْع الْآذَان " وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى يَوْم أُحُد .
قَوْله : ( بِمَاذَا يَأْمُركُمْ ) ؟ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الرَّسُول مِنْ شَأْنه أَنْ يَأْمُر قَوْمه .
قَوْله : ( يَقُول اُعْبُدُوا اللَّه وَحْده )
فِيهِ أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَة مَعْرُوفَة ; لِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِهِ " اُعْبُدُوا اللَّه " فِي جَوَاب مَا يَأْمُركُمْ , وَهُوَ مِنْ أَحْسَن الْأَدِلَّة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ; لِأَنَّ أَبَا سُفْيَان مِنْ أَهْل اللِّسَان , وَكَذَلِكَ الرَّاوِي عَنْهُ اِبْن عَبَّاس , بَلْ هُوَ مِنْ أَفْصَحهمْ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُقِرًّا لَهُ .
قَوْله : ( وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا )
سَقَطَ مِنْ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ الْوَاو فَيَكُون تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَحْده .
قَوْله : ( وَاتْرُكُوا مَا يَقُول آبَاؤُكُمْ )
هِيَ كَلِمَة جَامِعَة لِتَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة , وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْآبَاء تَنْبِيهًا عَلَى عُذْرهمْ فِي مُخَالَفَتهمْ لَهُ ; لِأَنَّ الْآبَاء قُدْوَة عِنْد الْفَرِيقَيْنِ , أَيْ عَبَدَة الْأَوْثَان وَالنَّصَارَى .
قَوْله : ( وَيَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْق )
وَلِلْمُصَنِّفِ فِي رِوَايَة " الصَّدَقَة " بَدَل الصِّدْق , وَرَجَّحَهَا شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام , وَيُقَوِّيهَا رِوَايَة الْمُؤَلِّف فِي التَّفْسِير " الزَّكَاة " وَاقْتِرَان الصَّلَاة بِالزَّكَاةِ مُعْتَاد فِي الشَّرْع , وَيُرَجِّحهَا أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِب فَذِكْر مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ أَوْلَى . قُلْت : وَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ الْأَمْر بِذَلِكَ مُمْتَنِعًا كَمَا فِي أَمْرهمْ بِوَفَاءِ الْعَهْد وَأَدَاء الْأَمَانَة , وَقَدْ كَانَا مِنْ مَأْلُوف عُقَلَائِهِمْ , وَقَدْ ثَبَتَا عِنْد الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد مِنْ رِوَايَة أَبِي ذَرّ عَنْ شَيْخه الْكُشْمِيهَنِيّ وَالسَّرَخْسِيّ , قَالَ " بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْق وَالصَّدَقَة " وَفِي قَوْله : يَأْمُرنَا بَعْد قَوْله يَقُول اُعْبُدُوا اللَّه إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمُغَايَرَة بَيْن الْأَمْرَيْنِ لِمَا يَتَرَتَّب عَلَى مُخَالِفهمَا , إِذْ مُخَالِف الْأَوَّل كَافِر , وَالثَّانِي مِمَّنْ قَبِلَ الْأَوَّل عَاصٍ .
قَوْله : ( فَكَذَلِكَ الرُّسُل تُبْعَث فِي نَسَب قَوْمهَا )
الظَّاهِر أَنَّ إِخْبَار هِرَقْل بِذَلِكَ بِالْجَزْمِ كَانَ عَنْ الْعِلْم الْمُقَرَّر عِنْده فِي الْكُتُب السَّالِفَة .
قَوْله : ( لَقُلْت رَجُل تَأَسَّى بِقَوْلٍ )
كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيّ , وَلِغَيْرِهِ " يَتَأَسَّى " بِتَقْدِيمِ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت , وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هِرَقْل " فَقُلْت " إِلَّا فِي هَذَا وَفِي قَوْله " هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِك " لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ مَقَام فِكْر وَنَظَر , بِخِلَافِ غَيْرهمَا مِنْ الْأَسْئِلَة فَإِنَّهَا مَقَام نَقْل .
قَوْله : ( فَذَكَرْت أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اِتَّبَعُوهُ )
هُوَ بِمَعْنَى قَوْل أَبِي سُفْيَان ضُعَفَاؤُهُمْ , وَمِثْل ذَلِكَ يُتَسَامَح بِهِ لِاتِّحَادِ الْمَعْنَى . وَقَوْل هِرَقْل " وَهُمْ أَتْبَاع الرُّسُل " مَعْنَاهُ أَنَّ أَتْبَاع الرُّسُل فِي الْغَالِب أَهْل الِاسْتِكَانَة لَا أَهْل الِاسْتِكْبَار الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الشِّقَاق بَغْيًا وَحَسَدًا كَأَبِي جَهْل وَأَشْيَاعه , إِلَى أَنْ أَهْلَكَهُمْ اللَّه تَعَالَى , وَأَنْقَذَ بَعْد حِين مَنْ أَرَادَ سَعَادَته مِنْهُمْ .
قَوْله ( وَكَذَلِكَ الْإِيمَان )
أَيْ : أَمْر الْإِيمَان ; لِأَنَّهُ يُظْهِر نُورًا , ثُمَّ لَا يَزَال فِي زِيَادَة حَتَّى يَتِمّ بِالْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَة فِيهِ مِنْ صَلَاة وَزَكَاة وَصِيَام وَغَيْرهَا , وَلِهَذَا نَزَلَتْ فِي آخِر سِنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) وَمِنْهُ ( وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُتِمّ نُوره ) وَكَذَا جَرَى لِأَتْبَاعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمْ يَزَالُوا فِي زِيَادَة حَتَّى كَمُلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ اللَّه مِنْ إِظْهَار دِينه وَتَمَام نِعْمَته , فَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة .
قَوْله : ( حِين يُخَالِط بَشَاشَة الْقُلُوب ) .
كَذَا رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّة وَالْقُلُوب مُضَاف إِلَيْهِ , أَيْ : يُخَالِط الْإِيمَان اِنْشِرَاح الصُّدُور , وَرُوِيَ " بَشَاشَة الْقُلُوب " بِالضَّمِّ وَالْقُلُوب مَفْعُول , أَيْ : يُخَالِط بَشَاشَة الْإِيمَان وَهُوَ شَرْحه الْقُلُوب الَّتِي يَدْخُل فِيهَا . زَادَ الْمُصَنِّف فِي الْإِيمَان " لَا يَسْخَطهُ أَحَد " كَمَا تَقَدَّمَ . وَزَادَ اِبْن السَّكَن فِي رِوَايَته فِي مُعْجَم الصَّحَابَة " يَزْدَاد بِهِ عُجْبًا وَفَرَحًا " . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَكَذَلِكَ حَلَاوَة الْإِيمَان لَا تَدْخُل قَلْبًا فَتَخْرُج مِنْهُ " .
قَوْله : ( وَكَذَلِكَ الرُّسُل لَا تَغْدِر )
لِأَنَّهَا لَا تَطْلُب حَظّ الدُّنْيَا الَّذِي لَا يُبَالِي طَالِبه بِالْغَدْرِ , بِخِلَافِ مَنْ طَلَبَ الْآخِرَة . وَلَمْ يُعَرِّج هِرَقْل عَلَى الدَّسِيسَة الَّتِي دَسَّهَا أَبُو سُفْيَان كَمَا تَقَدَّمَ . وَسَقَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَة إِيرَاد تَقْدِير السُّؤَال الْعَاشِر وَاَلَّذِي بَعْده وَجَوَابه , وَقَدْ ثَبَتَ الْجَمِيع فِي رِوَايَة الْمُؤَلِّف الَّتِي فِي الْجِهَاد وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ ثَمَّ , إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
( فَائِدَة ) :
قَالَ الْمَازِنِيّ هَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هِرَقْل لَيْسَتْ قَاطِعَة عَلَى النُّبُوَّة , إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهَا كَانَتْ عِنْده عَلَامَات عَلَى هَذَا النَّبِيّ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُ قَالَ بَعْد ذَلِكَ : قَدْ كُنْت أَعْلَم أَنَّهُ خَارِج , وَلَمْ أَكُنْ أَظُنّ أَنَّهُ مِنْكُمْ . وَمَا أَوْرَدَهُ اِحْتِمَالًا جَزَمَ بِهِ اِبْن بَطَّال ; وَهُوَ ظَاهِر .
قَوْله : ( فَذَكَرْت أَنَّهُ يَأْمُركُمْ )
ذَكَرَ ذَلِكَ بِالِاقْتِضَاءِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام أَبِي سُفْيَان ذِكْر الْأَمْر بَلْ صِيغَته . وَقَوْله " وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان " مُسْتَفَاد مِنْ قَوْله " وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَاتْرُكُوا مَا يَقُول آبَاؤُكُمْ " لِأَنَّ مَقُولهمْ الْأَمْر بِعِبَادَةِ الْأَوْثَان .
قَوْله : ( أَخْلُص )
بِضَمِّ اللَّام أَيْ : أَصِل , يُقَال خَلُصَ إِلَى كَذَا أَيْ : وَصَلَ .
قَوْله : ( لَتَجَشَّمْت )
بِالْجِيمِ وَالشِّين الْمُعْجَمَة , أَيْ : تَكَلَّفْت الْوُصُول إِلَيْهِ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّق أَنَّهُ لَا يَسْلَم مِنْ الْقَتْل إِنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَاسْتَفَادَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ كَمَا فِي قِصَّة ضُغَاطِر الَّذِي أَظْهَر لَهُمْ إِسْلَامه فَقَتَلُوهُ . وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق ضَعِيف عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ دِحْيَة فِي هَذِهِ الْقِصَّة مُخْتَصَرًا , فَقَالَ قَيْصَر : أَعْرِف أَنَّهُ كَذَلِكَ , وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَفْعَل , إِنْ فَعَلْت ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّوم . وَفِي مُرْسَل اِبْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ هِرَقْل قَالَ : وَيْحك , وَاَللَّه إِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ نَبِيّ مُرْسَل , وَلَكِنِّي أَخَاف الرُّوم عَلَى نَفْسِي , وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُهُ . لَكِنْ لَوْ تَفَطَّنَ هِرَقْل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَاب الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ " أَسْلِمْ تَسْلَمْ " وَحَمَلَ الْجَزَاء عَلَى عُمُومه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَسَلِمَ لَوْ أَسْلَمَ مِنْ كُلّ مَا يَخَافهُ . وَلَكِنَّ التَّوْفِيق بِيَدِ اللَّه تَعَالَى قَوْله " لَغَسَلْت عَنْ قَدَمَيْهِ " مُبَالَغَة فِي الْعُبُودِيَّة لَهُ وَالْخِدْمَة . زَادَ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ أَبِي سُفْيَان " لَوْ عَلِمْت أَنَّهُ هُوَ لَمَشَيْت إِلَيْهِ حَتَّى أُقَبِّل رَأْسه وَأَغْسِل قَدَمَيْهِ " وَهِيَ تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَقِيَ عِنْده بَعْض شَكّ . وَزَادَ فِيهَا " وَلَقَدْ رَأَيْت جَبْهَته تَتَحَادَر عَرَقًا مِنْ كَرْب الصَّحِيفَة " يَعْنِي لَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي اِقْتِصَاره عَلَى ذِكْر غَسْل الْقَدَمَيْنِ إِشَارَة مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْلُب مِنْهُ - إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ سَالِمًا - لَا وِلَايَة وَلَا مَنْصِبًا , وَإِنَّمَا يَطْلُب مَا تَحْصُل لَهُ بِهِ الْبَرَكَة . وَقَوْله " وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكه مَا تَحْت قَدَمَيَّ " أَيْ : بَيْت الْمَقْدِس , وَكَنَّى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَوْضِع اِسْتِقْرَاره . أَوْ أَرَادَ الشَّام كُلّه لِأَنَّ دَار مَمْلَكَته كَانَتْ حِمْص . وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ هِرَقْل آثَرَ مُلْكه عَلَى الْإِيمَان وَاسْتَمَرَّ عَلَى الضَّلَال أَنَّهُ حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَة مُؤْتَة سَنَة ثَمَان بَعْد هَذِهِ الْقِصَّة بِدُونِ السَّنَتَيْنِ , فَفِي مَغَازِي اِبْن إِسْحَاق : وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا مَعَانَ مِنْ أَرْض الشَّام أَنَّ هِرَقْل نَزَلَ فِي مِائَة أَلْف مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَحَكَى كَيْفِيَّة الْوَقْعَة . وَكَذَا رَوَى اِبْن حِبَّانَ فِي صَحِيحه عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا مِنْ تَبُوك يَدْعُوهُ , وَأَنَّهُ قَارَبَ الْإِجَابَة , وَلَمْ يُجِبْ . فَدَلَّ ظَاهِر ذَلِكَ عَلَى اِسْتِمْرَاره عَلَى الْكُفْر , لَكِنْ يُحْتَمَل مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُضْمِر الْإِيمَان وَيَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِيَ مُرَاعَاة لِمُلْكِهِ وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَقْتُلهُ قَوْمه . إِلَّا أَنَّ فِي مُسْنَد أَحْمَد أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ تَبُوك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي مُسْلِم . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَبَ , بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّته . وَفِي كِتَاب الْأَمْوَال لِأَبِي عُبَيْد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ مُرْسَل بَكْر بْن عَبْد اللَّه الْمُزَنِيّ نَحْوه , وَلَفْظه فَقَالَ : كَذَبَ عَدُوّ اللَّه , لَيْسَ بِمُسْلِمٍ . فَعَلَى هَذَا إِطْلَاق صَاحِب الِاسْتِيعَاب أَنَّهُ آمَنَ - أَيْ : أَظْهَرَ التَّصْدِيق - لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَمِرّ عَلَيْهِ وَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ , بَلْ شَحَّ بِمُلْكِهِ وَآثَرَ الْفَانِيَة عَلَى الْبَاقِيَة . وَاَللَّه الْمُوَفِّق .
قَوْله : ( ثُمَّ دَعَا )
أَيْ : مَنْ وَكَّلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ , وَلِهَذَا عُدِّيَ إِلَى الْكِتَاب بِالْبَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( دِحْيَة )
بِكَسْرِ الدَّال , وَحُكِيَ فَتْحهَا لُغَتَانِ , وَيُقَال إِنَّهُ الرَّئِيس بِلُغَةِ أَهْل الْيَمَن , وَهُوَ اِبْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ , صَحَابِيّ جَلِيل كَانَ أَحْسَن النَّاس وَجْهًا , وَأَسْلَمَ قَدِيمًا , وَبَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر سَنَةِ سِتّ بَعْد أَنْ رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَة بِكِتَابِهِ إِلَى هِرَقْل , وَكَانَ وُصُوله إِلَى هِرَقْل فِي الْمُحَرَّم سَنَة سَبْع , قَالَهُ الْوَاقِدِيّ . وَوَقَعَ فِي تَارِيخ خَلِيفَة أَنَّ إِرْسَال الْكِتَاب إِلَى هِرَقْل كَانَ سَنَة خَمْس , وَالْأَوَّل أَثْبَت , بَلْ هَذَا غَلَط لِتَصْرِيحِ أَبِي سُفْيَان بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُدَّة الْهُدْنَة , وَالْهُدْنَة كَانَتْ فِي آخِر سَنَة سِتّ اِتِّفَاقًا , وَمَاتَ دِحْيَة فِي خِلَافَة مُعَاوِيَة . وَبُصْرَى بِضَمِّ أَوَّله وَالْقَصْر مَدِينَة بَيْن الْمَدِينَة وَدِمَشْق , وَقِيلَ هِيَ حَوْرَان , وَعَظِيمهَا هُوَ الْحَارِث بْن أَبِي شَمِر الْغَسَّانِيّ . وَفِي الصَّحَابَة لِابْنِ السَّكَن أَنَّهُ أَرْسَلَ بِكِتَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل مَعَ عَدِيّ بْن حَاتِم , وَكَانَ عَدِيّ إِذْ ذَاكَ نَصْرَانِيًّا , فَوَصَلَ بِهِ هُوَ وَدِحْيَة مَعًا , وَكَانَتْ وَفَاة الْحَارِث الْمَذْكُور عَام الْفَتْح .
قَوْله : ( مِنْ مُحَمَّد )
فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنْ يَبْدَأ الْكِتَاب بِنَفْسِهِ , وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور , بَلْ حَكَى فِيهِ النَّحَّاس إِجْمَاع الصَّحَابَة . وَالْحَقّ إِثْبَات الْخِلَاف . وَفِيهِ أَنَّ " مِنْ " الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَة تَأْتِي مِنْ غَيْر الزَّمَان وَالْمَكَان كَذَا قَالَهُ أَبُو حَيَّان , وَالظَّاهِر أَنَّهَا هُنَا أَيْضًا لَمْ تَخْرُج مِنْ ذَلِكَ , لَكِنْ بِارْتِكَابِ مَجَاز . زَادَ فِي حَدِيث دِحْيَة : وَعِنْدهُ اِبْن أَخ لَهُ أَحْمَر أَزْرَق سَبْط الرَّأْس . وَفِيهِ : لَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب سَخِرَ فَقَالَ : لَا تَقْرَأْهُ , إِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ . فَقَالَ قَيْصَر : لَتَقْرَأَنَّهُ . فَقَرَأَهُ . وَقَدْ ذَكَرَ الْبَزَّار فِي مُسْنَده عَنْ دِحْيَة الْكَلْبِيّ أَنَّهُ هُوَ نَاوَلَ الْكِتَاب لِقَيْصَر , وَلَفْظه " بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ إِلَى قَيْصَر فَأَعْطَيْته الْكِتَاب " .
قَوْله ( عَظِيم الرُّوم )
فِيهِ عُدُول عَنْ ذِكْره بِالْمُلْكِ أَوْ الْإِمْرَة ; لِأَنَّهُ مَعْزُول بِحُكْمِ الْإِسْلَام , لَكِنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إِكْرَام لِمَصْلَحَةِ التَّأَلُّف . وَفِي حَدِيث دِحْيَة أَنَّ اِبْن أَخِي قَيْصَر أَنْكَرَ أَيْضًا كَوْنه لَمْ يَقُلْ مَلِك الرُّوم .
قَوْله : ( سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى )
فِي رِوَايَة الْمُصَنِّف فِي الِاسْتِئْذَان " السَّلَام " بِالتَّعْرِيفِ . وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي قِصَّة مُوسَى وَهَارُون مَعَ فِرْعَوْن . وَظَاهِر السِّيَاق يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَة مَا أُمِرَا بِهِ أَنْ يَقُولَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يُبْدَأ الْكَافِر بِالسَّلَامِ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : لَيْسَ الْمُرَاد مِنْ هَذَا التَّحِيَّة , إِنَّمَا مَعْنَاهُ سَلِمَ مِنْ عَذَاب اللَّه مَنْ أَسْلَمَ . وَلِهَذَا جَاءَ بَعْده أَنَّ الْعَذَاب عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى . وَكَذَا جَاءَ فِي بَقِيَّة هَذَا الْكِتَاب " فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ " . فَمُحَصَّل الْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَبْدَأ الْكَافِر بِالسَّلَامِ قَصْدًا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظ يُشْعِر بِهِ , لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْمُرَاد لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى فَلَمْ يُسَلِّم عَلَيْهِ .
قَوْله : ( أَمَّا بَعْد )
فِي قَوْله " أَمَّا " مَعْنَى الشَّرْط , وَتُسْتَعْمَل لِتَفْصِيلِ مَا يُذْكَر بَعْدهَا غَالِبًا , وَقَدْ تَرِد مُسْتَأْنَفَة لَا لِتَفْصِيلٍ كَاَلَّتِي هُنَا , وَلِلتَّفْصِيلِ وَالتَّقْرِير , وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : هِيَ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ وَتَقْدِيره : أَمَّا الِابْتِدَاء فَهُوَ اِسْم اللَّه , وَأَمَّا الْمَكْتُوب فَهُوَ مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه . . إِلَخْ , كَذَا قَالَ . وَلَفْظه " بَعْد " مَبْنِيَّة عَلَى الضَّمّ , وَكَانَ الْأَصْل أَنْ تُفْتَح لَوْ اِسْتَمَرَّتْ عَلَى الْإِضَافَة , لَكِنَّهَا قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَة فَبُنِيَتْ عَلَى الضَّمّ , وَسَيَأْتِي مَزِيد فِي الْكَلَام عَلَيْهَا فِي كِتَاب الْجُمُعَة .
قَوْله : ( بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام )
بِكَسْرِ الدَّال , مِنْ قَوْلك دَعَا يَدْعُو دِعَايَة نَحْو شَكَا يَشْكُو شِكَايَة . وَلِمُسْلِمٍ " بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَام " أَيْ : بِالْكَلِمَةِ الدَّاعِيَة إِلَى الْإِسْلَام , وَهِيَ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , وَالْبَاء مَوْضِع إِلَى . وَقَوْله " أَسْلِمْ تَسْلَمْ " غَايَة فِي الْبَلَاغ , وَفِيهِ نَوْع مِنْ الْبَدِيع وَهُوَ الْجِنَاس الِاشْتِقَاقِيّ .
قَوْله : ( يُؤْتِك )
جَوَاب ثَانٍ لِلْأَمْرِ . وَفِي الْجِهَاد لِلْمُؤَلِّفِ " أَسْلِمْ أَسْلِمْ يُؤْتِك " بِتَكْرَارِ أَسْلِمْ , فَيُحْتَمَل التَّأْكِيد , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْأَمْر الْأَوَّل لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام وَالثَّانِي لِلدَّوَامِ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله ) الْآيَة . وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ ) الْآيَة . وَإِعْطَاؤُهُ الْأَجْر مَرَّتَيْنِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون تَضْعِيف الْأَجْر لَهُ مِنْ جِهَة إِسْلَامه وَمِنْ جِهَة أَنَّ إِسْلَامه يَكُون سَبَبًا لِدُخُولِ أَتْبَاعه . وَسَيَأْتِي التَّصْرِيح بِذَلِكَ فِي مَوْضِعه مِنْ حَدِيث الشَّعْبِيّ مِنْ كِتَاب الْعِلْم إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام أَنَّ كُلّ مَنْ دَانَ بِدِينِ أَهْل الْكِتَاب كَانَ فِي حُكْمهمْ فِي الْمُنَاكَحَة وَالذَّبَائِح ; لِأَنَّ هِرَقْل هُوَ وَقَوْمه لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , وَهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّة بَعْد التَّبْدِيل . وَقَدْ قَالَ لَهُ وَلِقَوْمِهِ ( يَا أَهْل الْكِتَاب ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمْ حُكْم أَهْل الْكِتَاب , خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَوْ بِمَنْ عُلِمَ أَنَّ سَلَفه مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّة أَوْ النَّصْرَانِيَّة قَبْل التَّبْدِيل . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَإِنْ تَوَلَّيْت )
أَيْ : أَعْرَضْت عَنْ الْإِجَابَة إِلَى الدُّخُول فِي الْإِسْلَام . وَحَقِيقَة التَّوَلِّي إِنَّمَا هُوَ بِالْوَجْهِ , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِعْرَاض عَنْ الشَّيْء , وَهِيَ اِسْتِعَارَة تَبَعِيَّة .
قَوْله : ( الْأَرِيسِيِّينَ )
هُوَ جَمْع أَرِيسِيّ , وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى أَرِيس بِوَزْنِ فَعِيل , وَقَدْ تُقْلَب هَمْزَته يَاء كَمَا جَاءَتْ بِهِ رِوَايَة أَبِي ذَرّ وَالْأَصِيلِيّ وَغَيْرهمَا هُنَا , قَالَ اِبْن سِيده : الْأَرِيس الْأَكَّار , أَيْ : الْفَلَّاح عِنْد ثَعْلَب , وَعِنْد كُرَاع : الْأَرِيس هُوَ الْأَمِير , وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : هِيَ لُغَة شَامِيَّة , وَأَنْكَرَ اِبْن فَارِس أَنْ تَكُون عَرَبِيَّة , وَقِيلَ فِي تَفْسِيره غَيْر ذَلِكَ لَكِنْ هَذَا هُوَ الصَّحِيح هُنَا , فَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيّ بِلَفْظِ " فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْأَكَّارِينَ " زَادَ الْبَرْقَانِيّ فِي رِوَايَته : يَعْنِي الْحَرَّاثِينَ , وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا مَا فِي رِوَايَة الْمَدَائِنِيّ مِنْ طَرِيق مُرْسَلَة " فَإِنَّ عَلَيْك إِثْم الْفَلَّاحِينَ " , وَكَذَا عِنْد أَبِي عُبَيْد فِي كِتَاب الْأَمْوَال مِنْ مُرْسَل عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد " وَإِنْ لَمْ تَدْخُل فِي الْإِسْلَام فَلَا تَحُلْ بَيْن الْفَلَّاحِينَ وَبَيْن الْإِسْلَام " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الْمُرَاد بِالْفَلَّاحِينَ أَهْل مَمْلَكَته ; لِأَنَّ كُلّ مَنْ كَانَ يَزْرَع فَهُوَ عِنْد الْعَرَب فَلَّاح , سَوَاء كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ . قَالَ الْخَطَّابِيّ : أَرَادَ أَنَّ عَلَيْك إِثْم الضُّعَفَاء وَالْأَتْبَاع إِذَا لَمْ يُسْلِمُوا تَقْلِيدًا لَه
مواضيع مماثلة
» بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى تابع
» مجموعة سلاسل علمية فى العقيدة , للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
» رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهاته
» حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان
» سلسلة ღ♥ღ - مشكاة الأنوار - الشيخ / محمد حسان - ( رمضان 1430 ) ღ♥ღ
» مجموعة سلاسل علمية فى العقيدة , للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
» رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهاته
» حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان
» سلسلة ღ♥ღ - مشكاة الأنوار - الشيخ / محمد حسان - ( رمضان 1430 ) ღ♥ღ
منتديات ستار اليكس Forums Star Alex :: (¯`·._) ( القسم الاسلاامى ) (¯`·._) :: منتدى ستار الاحاديث والسيرة النبوية الشريفة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى