بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى تابع
منتديات ستار اليكس Forums Star Alex :: (¯`·._) ( القسم الاسلاامى ) (¯`·._) :: منتدى ستار الاحاديث والسيرة النبوية الشريفة
صفحة 1 من اصل 1
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى تابع
قَوْله : ( خَبِيث النَّفْس )
أَيْ : رَدِيء النَّفْس غَيْر طَيِّبهَا , أَيْ : مَهْمُومًا . وَقَدْ تُسْتَعْمَل فِي كَسَل النَّفْس , وَفِي الصَّحِيح " لَا يَقُولَنَّ أَحَدكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي " كَأَنَّهُ كَرِهَ اللَّفْظ , وَالْمُرَاد بِالْخِطَابِ الْمُسْلِمُونَ , وَأَمَّا فِي حَقّ هِرَقْل فَغَيْر مُمْتَنِع . وَصَرَّحَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق بِقَوْلِهِمْ لَهُ " لَقَدْ أَصْبَحْت مَهْمُومًا " . وَالْبَطَارِقَة جَمْع بِطْرِيق بِكَسْرِ أَوَّله وَهُمْ خَوَاصّ دَوْلَة الرُّوم .
قَوْله : ( حَزَّاء )
بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيد الزَّاي آخِره هَمْزَة مُنَوَّنَة أَيْ : كَاهِنًا , يُقَال حَزَا بِالتَّخْفِيفِ يَحْزُو حَزْوًا أَيْ تَكَهَّنَ , وَقَوْله " يَنْظُر فِي النُّجُوم " إِنْ جَعَلْتهَا خَبَرًا ثَانِيًا صَحَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُر فِي الْأَمْرَيْنِ , وَإِنْ جَعَلْتهَا تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ فَالْكَهَانَة تَارَة تَسْتَنِد إِلَى إِلْقَاء الشَّيَاطِين وَتَارَة تُسْتَفَاد مِنْ أَحْكَام النُّجُوم , وَكَانَ كُلّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّة شَائِعًا ذَائِعًا , إِلَى أَنْ أَظْهَرَ اللَّه الْإِسْلَام فَانْكَسَرَتْ شَوْكَتهمْ وَأَنْكَرَ الشَّرْع الِاعْتِمَاد عَلَيْهِمْ , وَكَانَ مَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ هِرَقْل مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى حِسَاب الْمُنَجِّمِينَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَوْلِد النَّبَوِيّ كَانَ بِقِرَانِ الْعُلْوِيَّيْنِ بِبُرْجِ الْعَقْرَب , وَهُمَا يَقْتَرِنَانِ فِي كُلّ عِشْرِينَ سَنَة مَرَّة إِلَّا أَنْ تَسْتَوْفِيَ الْمُثَلَّثَة بُرُوجهَا فِي سِتِّينَ سَنَة , فَكَانَ اِبْتِدَاء الْعِشْرِينَ الْأُولَى الْمَوْلِد النَّبَوِيّ فِي الْقِرَان الْمَذْكُور , وَعِنْد تَمَام الْعِشْرِينَ الثَّانِيَة مَجِيء جِبْرِيل بِالْوَحْيِ , وَعِنْد تَمَام الثَّالِثَة فَتْح خَيْبَر وَعُمْرَة الْقَضِيَّة الَّتِي جَرَّتْ فَتْح مَكَّة وَظُهُور الْإِسْلَام , وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام رَأَى هِرَقْل مَا رَأَى . وَمِنْ جُمْلَة مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّ بُرْج الْعَقْرَب مَائِيّ وَهُوَ دَلِيل مُلْك الْقَوْم الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ , فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى اِنْتِقَال الْمُلْك إِلَى الْعَرَب , وَأَمَّا الْيَهُود فَلَيْسُوا مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ هَذَا لِمَنْ يُنْقَل إِلَيْهِ الْمُلْك لَا لِمَنْ اِنْقَضَى مُلْكه . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سَاغَ لِلْبُخَارِيِّ إِيرَاد هَذَا الْخَبَر الْمُشْعِر بِتَقْوِيَةِ أَمْر الْمُنَجِّمِينَ وَالِاعْتِمَاد عَلَى مَا تَدُلّ عَلَيْهِ أَحْكَامهمْ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد ذَلِكَ , بَلْ قَصَدَ أَنْ يُبَيِّن أَنَّ الْإِشَارَات بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ مِنْ كُلّ طَرِيق وَعَلَى لِسَان كُلّ فَرِيق مِنْ كَاهِن أَوْ مُنَجِّم مُحِقّ أَوْ مُبْطِل إِنْسِيّ أَوْ جِنِّيّ , وَهَذَا مِنْ أَبْدَع مَا يُشِير إِلَيْهِ عَالِم أَوْ يَجْنَح إِلَيْهِ مُحْتَجّ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْحَزَّاء هُوَ الَّذِي يَنْظُر فِي الْأَعْضَاء وَفِي خَيَلَان الْوَجْه فَيَحْكُم عَلَى صَاحِبهَا بِطَرِيقِ الْفَرَاسَة . وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فَلَا يَلْزَم مِنْهُ حَصْره فِي ذَلِكَ بَلْ اللَّائِق بِالسِّيَاقِ فِي حَقّ هِرَقْل مَا تَقَدَّمَ .
قَوْله : ( مُلْك الْخِتَان )
بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان اللَّام , ولِلْكُشْمِيهَنِيّ بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر اللَّام .
قَوْله : ( قَدْ ظَهَرَ )
أَيْ : غَلَبَ , يَعْنِي دَلَّهُ نَظَره فِي حُكْم النُّجُوم عَلَى أَنَّ مُلْك الْخِتَان قَدْ غَلَبَ , وَهُوَ كَمَا قَالَ ; لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَيَّام كَانَ اِبْتِدَاء ظُهُور النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَالَحَ كُفَّار مَكَّة بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا ) إِذْ فَتْح مَكَّة كَانَ سَبَبه نَقْض قُرَيْش الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَيْنهمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَمُقَدِّمَة الظُّهُور ظُهُور .
قَوْله : ( مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة )
أَيْ : مِنْ أَهْل هَذَا الْعَصْر , وَإِطْلَاق الْأُمَّة عَلَى أَهْل الْعَصْر كُلّهمْ فِيهِ تَجَوُّز , وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله بَعْد هَذَا مُلْك هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ ظَهَرَ , فَإِنَّ مُرَاده بِهِ الْعَرَب خَاصَّة , وَالْحَصْر فِي قَوْلهمْ إِلَّا الْيَهُود هُوَ بِمُقْتَضَى عِلْمهمْ ; لِأَنَّ الْيَهُود كَانُوا بِإِيلِيَاء وَهِيَ بَيْت الْمَقْدِس كَثِيرِينَ تَحْت الذِّلَّة مَعَ الرُّوم , بِخِلَافِ الْعَرَب فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ تَحْت طَاعَة مَلِك الرُّوم كَآلِ غَسَّان لَكِنَّهُمْ كَانُوا مُلُوكًا بِرَأْسِهِمْ .
قَوْله : ( فَلَا يُهِمَّنَّك )
بِضَمِّ أَوَّله , مِنْ أَهَمَّ : أَثَارَ الْهَمّ . وَقَوْله " شَأْنهمْ " أَيْ : أَمْرهمْ . وَ " مَدَائِن " جَمْع مَدِينَة قَالَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : مَنْ جَعَلَهُ فَعِيلَة مِنْ قَوْلك مَدَن بِالْمَكَانِ أَيْ : أَقَامَ بِهِ هَمَزَهُ كَقَبَائِل , وَمَنْ جَعَلَهُ مُفْعِلَة مِنْ قَوْلك دِينَ أَيْ : مُلِكَ لَمْ يَهْمِز كَمَعَايِش . اِنْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعَايِش هُوَ الْمَشْهُور , وَقَدْ رَوَى خَارِجَة عَنْ نَافِع الْقَارِي الْهَمْز فِي مَعَايِش , وَقَالَ الْقَزَّاز : مَنْ هَمَزَهَا تَوَهَّمَهَا مِنْ فَعِيلَة لِشَبَهِهَا بِهَا فِي اللَّفْظ . اِنْتَهَى .
قَوْله : ( فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرهمْ )
أَيْ : فِي هَذِهِ الْمَشُورَة .
قَوْله : ( أُتِيَ هِرَقْل بِرَجُلٍ )
لَمْ يَذْكُر مَنْ أَحْضَرَهُ . وَمَلِك غَسَّان هُوَ صَاحِب بُصْرَى الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْره , وَأَشَرْنَا إِلَى أَنَّ اِبْن السَّكَن رَوَى أَنَّهُ أَرْسَلَ مِنْ عِنْده عَدِيّ بْن حَاتِم , فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هُوَ الْمَذْكُور وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( عَنْ خَبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
فَسَّرَ ذَلِكَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته فَقَالَ : خَرَجَ مِنْ بَيْن أَظْهُرنَا رَجُل يَزْعُم أَنَّهُ نَبِيّ , فَقَدْ اِتَّبَعَهُ نَاس , وَخَالَفَهُ نَاس , فَكَانَتْ بَيْنهمْ مَلَاحِم فِي مَوَاطِن , فَتَرَكَهُمْ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . فَبَيَّنَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيث الْبَاب لِأَنَّهُ يُوهِم أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِل مَا ظَهَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي رِوَايَة أَنَّهُ قَالَ : جَرِّدُوهُ , فَإِذَا هُوَ مُخْتَتِن , فَقَالَ : هَذَا وَاَللَّه الَّذِي رَأَيْته , أَعْطِهِ ثَوْبه .
قَوْله : ( هُمْ يَخْتَتِنُونَ )
فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ " هُمْ مُخْتَتِنُونَ " بِالْمِيمِ وَالْأَوَّل أَفْيَد وَأَشْمَل .
قَوْله : ( هَذَا مُلْك هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ ظَهَرَ )
كَذَا لِأَكْثَر الرُّوَاة بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُون , وَلِلْقَابِسِيّ بِالْفَتْحِ ثُمَّ الْكَسْر , وَلِأُبَيّ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيّ وَحْده يَمْلِك فِعْل مُضَارِع , قَالَ الْقَاضِي : أَظُنّهَا ضَمَّة الْمِيم اِتَّصَلَتْ بِهَا فَتَصَحَّفَتْ , وَوَجَّهَهُ السُّهَيْلِيّ فِي أَمَالِيهِ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَر , أَيْ هَذَا الْمَذْكُور يَمْلِك هَذِهِ الْأُمَّة . وَقِيلَ يَجُوز أَنْ يَكُون يَمْلِك نَعْتًا , أَيْ هَذَا رَجُل يَمْلِك هَذِهِ الْأُمَّة . وَقَالَ شَيْخنَا : يَجُوز أَنْ يَكُون الْمَحْذُوف هُوَ الْمَوْصُول عَلَى رَأْي الْكُوفِيِّينَ , أَيْ هَذَا الَّذِي يَمْلِك , وَهُوَ نَظِير قَوْله " وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيق " . عَلَى أَنَّ الْكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ اِسْتِعْمَال اِسْم الْإِشَارَة بِمَعْنَى الِاسْم الْمَوْصُول , فَيَكُون التَّقْدِير الَّذِي يَمْلِك , مِنْ غَيْر حَذْف , قُلْت : لَكِنَّ اِتِّفَاق الرُّوَاة عَلَى حَذْف الْيَاء فِي أَوَّله دَالّ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِي فَيَكُون شَاذًّا . عَلَى أَنَّنِي رَأَيْت فِي أَصْل مُعْتَمَد وَعَلَيْهِ عَلَامَة السَّرَخْسِيّ بِبَاءٍ مُوَحَّدَة فِي أَوَّله , وَتَوْجِيههَا أَقْرَب مِنْ تَوْجِيه الْأَوَّل ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُون الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَظَره فِي حُكْم النُّجُوم , وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بِظَهَرَ , أَيْ : هَذَا الْحُكْم ظَهَرَ بِمُلْكِ هَذِهِ الْأُمَّة الَّتِي تَخْتَتِن .
قَوْله : ( بِرُومِيَةَ )
بِالتَّخْفِيفِ , وَهِيَ مَدِينَة مَعْرُوفَة لِلرُّومِ . وَحِمْص مَجْرُور بِالْفَتْحَةِ مُنِعَ صَرْفه لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيث . وَيُحْتَمَل أَنْ يَجُوز صَرْفه
قَوْله : ( فَلَمْ يَرِمْ )
بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الرَّاء أَيْ : لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانه , هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف , وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : لَمْ يَصِلْ إِلَى حِمْص وَزَيَّفُوهُ .
قَوْله : ( حَتَّى أَتَاهُ كِتَاب مِنْ صَاحِبه )
وَفِي حَدِيث دِحْيَة الَّذِي أَشَرْت إِلَيْهِ قَالَ : فَلَمَّا خَرَجُوا أَدْخَلَنِي عَلَيْهِ وَأَرْسَلَ إِلَيَّ الْأُسْقُف وَهُوَ صَاحِب أَمْرهمْ فَقَالَ : هَذَا الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِر , وَبَشَّرَنَا بِهِ عِيسَى , أَمَّا أَنَا فَمُصَدِّقه وَمُتَّبِعه . فَقَالَ لَهُ قَيْصَر : أَمَّا أَنَا إِنْ فَعَلْت ذَلِكَ ذَهَبَ مُلْكِي , فَذَكَرَ الْقِصَّة , وَفِي آخِره : فَقَالَ لِي الْأُسْقُف : خُذْ هَذَا الْكِتَاب وَاذْهَبْ إِلَى صَاحِبك فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَخْبِرْهُ أَنِّي أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , وَأَنِّي قَدْ آمَنْت بِهِ وَصَدَّقْته , وَأَنَّهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا عَلَيَّ ذَلِكَ . ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّ هِرَقْل أَرْسَلَ دِحْيَة إِلَى ضُغَاطِر الرُّومِيّ وَقَالَ : إِنَّهُ فِي الرُّوم أَجْوَز قَوْلًا مِنِّي , وَإِنَّ ضُغَاطِر الْمَذْكُور أَظْهَرَ إِسْلَامه وَأَلْقَى ثِيَابه الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَابًا بِيضًا وَخَرَجَ عَلَى الرُّوم فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وَشَهِدَ شَهَادَة الْحَقّ , فَقَامُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ . قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ دِحْيَة إِلَى هِرَقْل قَالَ لَهُ : قَدْ قُلْت لَك إِنَّا نَخَافهُمْ عَلَى أَنْفُسنَا , فَضُغَاطِر كَانَ أَعْظَم عِنْدهمْ مِنِّي . قُلْت : فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هُوَ صَاحِب رُومِيَة الَّذِي أُبْهِمَ هُنَا , لَكِنْ يُعَكِّر عَلَيْهِ مَا قِيلَ إِنَّ دِحْيَة لَمْ يَقْدَم عَلَى هِرَقْل بِهَذَا الْكِتَاب الْمَكْتُوب فِي سَنَة الْحُدَيْبِيَة , وَإِنَّمَا قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوب فِي غَزْوَة تَبُوك , فَالرَّاجِح أَنَّ دِحْيَة قَدِمَ عَلَى هِرَقْل أَيْضًا فِي الْأُولَى , فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَل أَنْ تَكُون وَقَعَتْ لِكُلٍّ مِنْ الْأُسْقُف وَمِنْ ضُغَاطِر قِصَّة قُتِلَ كُلّ مِنْهُمَا بِسَبَبِهَا , أَوْ وَقَعَتْ لِضُغَاطِر قِصَّتَانِ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن النَّاطُور وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَا أَنَّهُ قُتِلَ , وَالثَّانِيَة الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن إِسْحَاق فَإِنَّ فِيهَا قِصَّته مَعَ دِحْيَة وَأَنَّهُ أَسْلَمَ وَقُتِلَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( وَسَارَ هِرَقْل إِلَى حِمْص )
لِأَنَّهَا كَانَتْ دَار مُلْكه كَمَا قَدَّمْنَاهُ , وَكَانَتْ فِي زَمَانهمْ أَعْظَم مِنْ دِمَشْق . وَكَانَ فَتْحهَا عَلَى يَد أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح سَنَة سِتّ عَشْرَة بَعْد هَذِهِ الْقِصَّة بِعَشْرِ سِنِينَ .
قَوْله : ( وَأَنَّهُ نَبِيّ )
يَدُلّ عَلَى أَنَّ هِرَقْل وَصَاحِبه أَقَرَّا بِنُبُوَّةِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَكِنَّ هِرَقْل كَمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَسْتَمِرّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ صَاحِبه .
قَوْله : ( فَأَذِنَ )
هِيَ بِالْقَصْرِ مِنْ الْإِذْن , وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ وَغَيْره بِالْمَدِّ وَمَعْنَاهُ أَعْلَمَ . وَ " الدَّسْكَرَة " بِسُكُونِ السِّين الْمُهْمَلَة الْقَصْر الَّذِي حَوْله بُيُوت , وَكَأَنَّهُ دَخَلَ الْقَصْر ثُمَّ أَغْلَقَهُ وَفَتَحَ أَبْوَاب الْبُيُوت الَّتِي حَوْله وَأَذِنَ لِلرُّومِ فِي دُخُولهَا ثُمَّ أَغْلَقَهَا ثُمَّ اِطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَخَاطَبَهُمْ , وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ خَشْيَة أَنْ يَثِبُوا بِهِ كَمَا وَثَبُوا بِضُغَاطِر .
قَوْله : ( وَالرَّشَد ) [color=indigo]
بِفَتْحَتَيْنِ ( وَأَنْ يَثْبُت مُلْككُمْ ) لِأَنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى الْكُفْر كَانَ سَبَبًا لِذَهَابِ مُلْكهمْ , كَمَا عَرِفَ هُوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَار السَّابِقَة .
قَوْله : ( فَتُبَايِعُوا )
بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَة , ولِلْكُشْمِيهَنِيّ بِمُثَنَّاتَيْنِ وَمُوَحَّدَة , وَلِلْأَصِيلِيِّ " فَنُبَايِع " بِنُونٍ وَمُوَحَّدَة ( لِهَذَا النَّبِيّ ) كَذَا لِأَبِي ذَرّ وَلِلْبَاقِينَ بِحَذْفِ اللَّام .
قَوْله : ( فَحَاصُوا )
بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ : نَفَرُوا , وَشَبَّهَهُمْ بِالْوُحُوشِ لِأَنَّ نَفْرَتهَا أَشَدّ مِنْ نَفْرَة الْبَهَائِم الْإِنْسِيَّة , وَشَبَّهَهُمْ بِالْحُمْرِ دُون غَيْرهَا مِنْ الْوُحُوش لِمُنَاسَبَةِ الْجَهْل وَعَدَم الْفِطْنَة بَلْ هُمْ أَضَلّ .
قَوْله : ( وَأَيِسَ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ وَالْأَصِيلِيّ " وَيَئِسَ " بِيَائَيْنِ تَحْتَانِيَّتَيْنِ وَهُمَا بِمَعْنَى قَنَطَ وَالْأَوَّل مَقْلُوب مِنْ الثَّانِي .
قَوْله : ( مِنْ الْإِيمَان )
أَيْ : مِنْ إِيمَانهمْ لِمَا أَظْهَرُوهُ , وَمِنْ إِيمَانه لِأَنَّهُ شَحَّ بِمُلْكِهِ كَمَا قَدَّمْنَا , وَكَانَ يُحِبّ أَنْ يُطِيعُوهُ فَيَسْتَمِرّ مُلْكه وَيَسْلَم وَيَسْلَمُوا بِإِسْلَامِهِمْ , فَمَا أَيِسَ مِنْ الْإِيمَان إِلَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي أَرَادَهُ , وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفِرّ عَنْهُمْ وَيَتْرُك مُلْكه رَغْبَة فِيمَا عِنْد اللَّه وَاَللَّه الْمُوَفِّق .
قَوْله : ( آنِفًا )
أَيْ : قَرِيبًا , وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال .
قَوْله : ( فَقَدْ رَأَيْت )
زَادَ فِي التَّفْسِير : فَقَدْ رَأَيْت مِنْكُمْ الَّذِي أَحْبَبْت .
قَوْله : ( فَكَانَ ذَلِكَ آخِر شَأْن هِرَقْل )
أَيْ : فِيمَا يَتَعَلَّق بِهَذِهِ الْقِصَّة الْمُتَعَلِّقَة بِدُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَان خَاصَّة ; لِأَنَّهُ اِنْقَضَى أَمْره حِينَئِذٍ وَمَاتَ , أَوْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْآخِرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي عِلْمه , وَهَذَا أَوْجَه ; لِأَنَّ هِرَقْل وَقَعَتْ لَهُ قَصَص أُخْرَى بَعْد ذَلِكَ , مِنْهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَجْهِيزه الْجُيُوش إِلَى مُؤْتَة وَمِنْ تَجْهِيزه الْجُيُوش أَيْضًا إِلَى تَبُوك , وَمُكَاتَبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثَانِيًا , وَإِرْسَاله إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَهَبٍ فَقَسَّمَهُ بَيْن أَصْحَابه كَمَا فِي رِوَايَة اِبْن حِبَّانَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا قَبْل وَأَبِي عُبَيْد , وَفِي الْمُسْنَد مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن أَبِي رَاشِد التَّنُوخِيّ رَسُول هِرَقْل قَالَ : قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوك فَبَعَثَ دِحْيَة إِلَى هِرَقْل فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَاب دَعَا قِسِّيسِي الرُّوم وَبَطَارِقَتِهَا , فَذَكَرَ الْحَدِيث , قَالَ فَتَحَيَّرُوا حَتَّى أَنَّ بَعْضهمْ خَرَجَ مِنْ بُرْنُسه , فَقَالَ : اُسْكُتُوا , فَإِنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَعْلَمَ تَمَسُّككُمْ بِدِينِكُمْ . وَرَوَى اِبْن إِسْحَاق عَنْ خَالِد بْن بَشَّار عَنْ رَجُل مِنْ قُدَمَاء الشَّام أَنَّ هِرَقْل لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج مِنْ الشَّام إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة عَرَضَ عَلَى الرُّوم أُمُورًا : إِمَّا الْإِسْلَام وَإِمَّا الْجِزْيَة , وَإِمَّا أَنْ يُصَالِح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَبْقَى لَهُمْ مَا دُون الدَّرْب , فَأَبَوْا , وَأَنَّهُ اِنْطَلَقَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الدَّرْب اِسْتَقْبَلَ أَرْض الشَّام ثُمَّ قَالَ : السَّلَام عَلَيْك أَرْض سُورِيَّة - يَعْنِي الشَّام - تَسْلِيم الْمُوَدِّع , ثُمَّ رَكَضَ حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّة . وَاخْتَلَفَ الْأَخْبَارِيُّونَ هَلْ هُوَ الَّذِي حَارَبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي زَمَن أَبِي بَكْر وَعُمَر أَوْ اِبْنه , وَالْأَظْهَر أَنَّهُ هُوَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
( تَنْبِيه )
لَمَّا كَانَ أَمْر هِرَقْل فِي الْإِيمَان عِنْد كَثِير مِنْ النَّاس مُسْتَبْهَمًا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَدَم تَصْرِيحه بِالْإِيمَانِ لِلْخَوْفِ عَلَى نَفْسه مِنْ الْقَتْل , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون اِسْتَمَرَّ عَلَى الشَّكّ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا , وَقَالَ الرَّاوِي فِي آخِر الْقِصَّة فَكَانَ ذَلِكَ آخِر شَأْن هِرَقْل , خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيّ هَذَا الْبَاب الَّذِي اِسْتَفْتَحَهُ بِحَدِيثِ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ صَدَقَتْ نِيَّته اِنْتَفَعَ بِهَا فِي الْجُمْلَة , وَإِلَّا فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ . فَظَهَرَتْ مُنَاسَبَة إِيرَاد قِصَّة اِبْن النَّاطُور فِي بَدْء الْوَحْي لِمُنَاسَبَتِهَا حَدِيث الْأَعْمَال الْمُصَدَّر الْبَاب بِهِ . وَيُؤْخَذ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ آخِر لَفْظ فِي الْقِصَّة بَرَاعَة الِاخْتِتَام , وَهُوَ وَاضِح مِمَّا قَرَّرْنَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : مَا مُنَاسَبَة حَدِيث أَبِي سُفْيَان فِي قِصَّة هِرَقْل بِبَدْءِ الْوَحْي ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ كَيْفِيَّة حَال النَّاس مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاء ; وَلِأَنَّ الْآيَة الْمَكْتُوبَة إِلَى هِرَقْل لِلدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام مُلْتَئِمَة مَعَ الْآيَة الَّتِي فِي التَّرْجَمَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ ) الْآيَة . وَقَالَ تَعَالَى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) الْآيَة , فَبَانَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ كُلّهمْ أَنْ أَقِيمُوا الدِّين , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ( سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُمْ ) الْآيَة .
( تَكْمِيل )
ذَكَرَ السُّهَيْلِيّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ هِرَقْل وَضَعَ الْكِتَاب فِي قَصَبَة مِنْ ذَهَب تَعْظِيمًا لَهُ , وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَتَوَارَثُونَهُ حَتَّى كَانَ عِنْد مَلِك الْفِرِنْج الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى طُلَيْطُلَة , ثُمَّ كَانَ عِنْد سَبْطه , فَحَدَّثَنِي بَعْض أَصْحَابنَا أَنَّ عَبْد الْمَلِك بْن سَعْد أَحَد قُوَّاد الْمُسْلِمِينَ اِجْتَمَعَ بِذَلِكَ الْمَلِك فَأَخْرَجَ لَهُ الْكِتَاب , فَلَمَّا رَآهُ اِسْتَعْبَرَ وَسَأَلَ أَنْ يُمَكِّنهُ مِنْ تَقْبِيله , فَامْتَنَعَ . قُلْت : وَأَنْبَأَنِي غَيْر وَاحِد عَنْ الْقَاضِي نُور الدِّين بْن الصَّائِغ الدِّمَشْقِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي سَيْف الدِّين فُلَيْح الْمَنْصُورِيّ قَالَ : أَرْسَلَنِي الْمَلِك الْمَنْصُور قَلَاوُون إِلَى مَلِك الْغَرْب بِهَدِيَّةٍ , فَأَرْسَلَنِي مَلِك الْغَرْب إِلَى مَلِك الْفِرِنْج فِي شَفَاعَة فَقَبِلَهَا , وَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِقَامَة عِنْده فَامْتَنَعْت , فَقَالَ لِي : لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سُنِّيَّة , فَأَخْرَجَ لِي صُنْدُوقًا مُصَفَّحًا بِذَهَبٍ , فَأَخْرَجَ مِنْهُ مِقْلَمَة ذَهَب , فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَتْ أَكْثَر حُرُوفه وَقَدْ اِلْتَصَقَتْ عَلَيْهِ خِرْقَة حَرِير فَقَالَ : هَذَا كِتَاب نَبِيّكُمْ إِلَى جَدِّي قَيْصَر , مَا زِلْنَا نَتَوَارَثهُ إِلَى الْآن , وَأَوْصَانَا آبَاؤُنَا أَنَّهُ مَا دَامَ هَذَا الْكِتَاب عِنْدنَا لَا يَزَال الْمُلْك فِينَا , فَنَحْنُ نَحْفَظهُ غَايَة الْحِفْظ وَنُعَظِّمهُ وَنَكْتُمهُ عَنْ النَّصَارَى لِيَدُومَ الْمُلْك فِينَا . اِنْتَهَى . وَيُؤَيِّد هَذَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيث سَعِيد بْن أَبِي رَاشِد الَّذِي أَشَرْت إِلَيْهِ آنِفًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى التَّنُوخِيّ رَسُول هِرَقْل الْإِسْلَام فَامْتَنَعَ , فَقَالَ لَهُ : يَا أَخَا تَنُوخ إِنِّي كَتَبْت إِلَى مَلِككُمْ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا , فَلَنْ يَزَال النَّاس يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْش خَيْر . وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب الْأَمْوَال مِنْ مُرْسَل عُمَيْر بْن إِسْحَاق قَالَ : كَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَر , فَأَمَّا كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب مَزَّقَهُ , وَأَمَّا قَيْصَر فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب طَوَاهُ ثُمَّ رَفَعَهُ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُمَزَّقُونَ , وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَسَتَكُونُ لَهُمْ بَقِيَّة , وَيُؤَيِّدهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ جَوَاب كِسْرَى قَالَ : مَزَّقَ اللَّه مُلْكه . وَلَمَّا جَاءَهُ جَوَاب هِرَقْل قَالَ : ثَبَّتَ اللَّه مُلْكه . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( رَوَاهُ صَالِح بْن كَيْسَانَ وَيُونُس وَمَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ )
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ يَحْتَمِل ذَلِكَ وَجْهَيْنِ : أَنْ يَرْوِيَ الْبُخَارِيّ عَنْ الثَّلَاثَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور كَأَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان أَخْبَرَنَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عَنْ الزُّهْرِيّ , وَأَنْ يَرْوِي عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ آخَر . كَمَا أَنَّ الزُّهْرِيّ يَحْتَمِل أَيْضًا فِي رِوَايَة الثَّلَاثَة أَنْ يَرْوِي لَهُمْ عَنْ عُبَيْد اللَّه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَأَنْ يَرْوِي لَهُمْ عَنْ غَيْره . هَذَا مَا يَحْتَمِل اللَّفْظ , وَإِنْ كَانَ الظَّاهِر الِاتِّحَاد . قُلْت : هَذَا الظَّاهِر كَافٍ لِمَنْ شَمَّ أَدْنَى رَائِحَة مِنْ عِلْم الْإِسْنَاد . وَالِاحْتِمَالَات الْعَقْلِيَّة الْمُجَرَّدَة لَا مَدْخَل لَهَا فِي هَذَا الْفَنّ , وَأَمَّا الِاحْتِمَال الْأَوَّل فَأَشَدّ بُعْدًا ; لِأَنَّ أَبَا الْيَمَان لَمْ يَلْحَق صَالِح بْن كَيْسَانَ وَلَا سَمِعَ مِنْ يُونُس , وَهَذَا أَمْر يَتَعَلَّق بِالنَّقْلِ الْمَحْض فَلَا يُلْتَفَت إِلَى مَا عَدَاهُ , وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّقْل لَاطَّلَعَ عَلَى كَيْفِيَّة رِوَايَة الثَّلَاثَة لِهَذَا الْحَدِيث بِخُصُوصِهِ فَاسْتَرَاحَ مِنْ هَذَا التَّرَدُّد , وَقَدْ أَوْضَحْت ذَلِكَ فِي كِتَابِي تَعْلِيق التَّعْلِيق وَأُشِير هُنَا إِلَيْهِ إِشَارَة مُفْهِمَة : فَرِوَايَة صَالِح وَهُوَ اِبْن كَيْسَانَ أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّف فِي كِتَاب الْجِهَاد بِتَمَامِهَا مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ صَالِح بْن كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَفِيهَا مِنْ الْفَوَائِد الزَّوَائِد مَا أَشَرْت إِلَيْهِ فِي أَثْنَاء الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث مِنْ قَبْل ; وَلَكِنَّهُ اِنْتَهَى حَدِيثه عِنْد قَوْل أَبِي سُفْيَان " حَتَّى أَدْخَلَ اللَّه عَلَيَّ الْإِسْلَام " زَادَ هُنَا " وَأَنَا كَارِه " وَلَمْ يَذْكُر قِصَّة اِبْن النَّاطُور . وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِدُونِهَا مِنْ حَدِيث إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور , وَرِوَايَة يُونُس أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد مُخْتَصَرَة مِنْ طَرِيق اللَّيْث , وَفِي الِاسْتِئْذَان مُخْتَصَرَة أَيْضًا مِنْ طَرِيق اِبْن الْمُبَارَك كِلَاهُمَا عَنْ يُونُس عَنْ الزُّهْرِيّ بِسَنَدِهِ بِعَيْنِهِ , وَلَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ , وَقَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ الطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن صَالِح عَنْ اللَّيْث , وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّة اِبْن النَّاطُور , وَرِوَايَة مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ كَذَلِكَ سَاقَهَا الْمُؤَلِّف بِتَمَامِهَا فِي التَّفْسِير , وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى بَعْض فَوَائِد زَائِدَة فِيمَا مَضَى أَيْضًا , وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ قِصَّة اِبْن النَّاطُور قِطْعَة مُخْتَصَرَة عَنْ الزُّهْرِيّ مُرْسَلَة . فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ أَبَا الْيَمَان مَا رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ وَاحِد مِنْ الثَّلَاثَة , وَأَنَّ الزُّهْرِيّ إِنَّمَا رَوَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِسَنَدٍ وَاحِد عَنْ شَيْخ وَاحِد وَهُوَ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه , وَأَنَّ أَحَادِيث الثَّلَاثَة عِنْد الْمُصَنِّف عَنْ غَيْر أَبِي الْيَمَان , وَلَوْ احْتَمَلَ أَنْ يَرْوِيه لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ عَنْ شَيْخ آخَر لَكَانَ ذَلِكَ اِخْتِلَافًا قَدْ يُفْضِي إِلَى الِاضْطِرَاب الْمُوجِب لِلضَّعْفِ , فَلَاحَ فَسَاد ذَلِكَ الِاحْتِمَال , وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْمُوَفِّق وَالْهَادِي إِلَى الصَّوَاب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ .
أَيْ : رَدِيء النَّفْس غَيْر طَيِّبهَا , أَيْ : مَهْمُومًا . وَقَدْ تُسْتَعْمَل فِي كَسَل النَّفْس , وَفِي الصَّحِيح " لَا يَقُولَنَّ أَحَدكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي " كَأَنَّهُ كَرِهَ اللَّفْظ , وَالْمُرَاد بِالْخِطَابِ الْمُسْلِمُونَ , وَأَمَّا فِي حَقّ هِرَقْل فَغَيْر مُمْتَنِع . وَصَرَّحَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق بِقَوْلِهِمْ لَهُ " لَقَدْ أَصْبَحْت مَهْمُومًا " . وَالْبَطَارِقَة جَمْع بِطْرِيق بِكَسْرِ أَوَّله وَهُمْ خَوَاصّ دَوْلَة الرُّوم .
قَوْله : ( حَزَّاء )
بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيد الزَّاي آخِره هَمْزَة مُنَوَّنَة أَيْ : كَاهِنًا , يُقَال حَزَا بِالتَّخْفِيفِ يَحْزُو حَزْوًا أَيْ تَكَهَّنَ , وَقَوْله " يَنْظُر فِي النُّجُوم " إِنْ جَعَلْتهَا خَبَرًا ثَانِيًا صَحَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُر فِي الْأَمْرَيْنِ , وَإِنْ جَعَلْتهَا تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ فَالْكَهَانَة تَارَة تَسْتَنِد إِلَى إِلْقَاء الشَّيَاطِين وَتَارَة تُسْتَفَاد مِنْ أَحْكَام النُّجُوم , وَكَانَ كُلّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّة شَائِعًا ذَائِعًا , إِلَى أَنْ أَظْهَرَ اللَّه الْإِسْلَام فَانْكَسَرَتْ شَوْكَتهمْ وَأَنْكَرَ الشَّرْع الِاعْتِمَاد عَلَيْهِمْ , وَكَانَ مَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ هِرَقْل مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى حِسَاب الْمُنَجِّمِينَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَوْلِد النَّبَوِيّ كَانَ بِقِرَانِ الْعُلْوِيَّيْنِ بِبُرْجِ الْعَقْرَب , وَهُمَا يَقْتَرِنَانِ فِي كُلّ عِشْرِينَ سَنَة مَرَّة إِلَّا أَنْ تَسْتَوْفِيَ الْمُثَلَّثَة بُرُوجهَا فِي سِتِّينَ سَنَة , فَكَانَ اِبْتِدَاء الْعِشْرِينَ الْأُولَى الْمَوْلِد النَّبَوِيّ فِي الْقِرَان الْمَذْكُور , وَعِنْد تَمَام الْعِشْرِينَ الثَّانِيَة مَجِيء جِبْرِيل بِالْوَحْيِ , وَعِنْد تَمَام الثَّالِثَة فَتْح خَيْبَر وَعُمْرَة الْقَضِيَّة الَّتِي جَرَّتْ فَتْح مَكَّة وَظُهُور الْإِسْلَام , وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام رَأَى هِرَقْل مَا رَأَى . وَمِنْ جُمْلَة مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّ بُرْج الْعَقْرَب مَائِيّ وَهُوَ دَلِيل مُلْك الْقَوْم الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ , فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى اِنْتِقَال الْمُلْك إِلَى الْعَرَب , وَأَمَّا الْيَهُود فَلَيْسُوا مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ هَذَا لِمَنْ يُنْقَل إِلَيْهِ الْمُلْك لَا لِمَنْ اِنْقَضَى مُلْكه . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سَاغَ لِلْبُخَارِيِّ إِيرَاد هَذَا الْخَبَر الْمُشْعِر بِتَقْوِيَةِ أَمْر الْمُنَجِّمِينَ وَالِاعْتِمَاد عَلَى مَا تَدُلّ عَلَيْهِ أَحْكَامهمْ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد ذَلِكَ , بَلْ قَصَدَ أَنْ يُبَيِّن أَنَّ الْإِشَارَات بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ مِنْ كُلّ طَرِيق وَعَلَى لِسَان كُلّ فَرِيق مِنْ كَاهِن أَوْ مُنَجِّم مُحِقّ أَوْ مُبْطِل إِنْسِيّ أَوْ جِنِّيّ , وَهَذَا مِنْ أَبْدَع مَا يُشِير إِلَيْهِ عَالِم أَوْ يَجْنَح إِلَيْهِ مُحْتَجّ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْحَزَّاء هُوَ الَّذِي يَنْظُر فِي الْأَعْضَاء وَفِي خَيَلَان الْوَجْه فَيَحْكُم عَلَى صَاحِبهَا بِطَرِيقِ الْفَرَاسَة . وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فَلَا يَلْزَم مِنْهُ حَصْره فِي ذَلِكَ بَلْ اللَّائِق بِالسِّيَاقِ فِي حَقّ هِرَقْل مَا تَقَدَّمَ .
قَوْله : ( مُلْك الْخِتَان )
بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان اللَّام , ولِلْكُشْمِيهَنِيّ بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر اللَّام .
قَوْله : ( قَدْ ظَهَرَ )
أَيْ : غَلَبَ , يَعْنِي دَلَّهُ نَظَره فِي حُكْم النُّجُوم عَلَى أَنَّ مُلْك الْخِتَان قَدْ غَلَبَ , وَهُوَ كَمَا قَالَ ; لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَيَّام كَانَ اِبْتِدَاء ظُهُور النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَالَحَ كُفَّار مَكَّة بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا ) إِذْ فَتْح مَكَّة كَانَ سَبَبه نَقْض قُرَيْش الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَيْنهمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَمُقَدِّمَة الظُّهُور ظُهُور .
قَوْله : ( مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة )
أَيْ : مِنْ أَهْل هَذَا الْعَصْر , وَإِطْلَاق الْأُمَّة عَلَى أَهْل الْعَصْر كُلّهمْ فِيهِ تَجَوُّز , وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله بَعْد هَذَا مُلْك هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ ظَهَرَ , فَإِنَّ مُرَاده بِهِ الْعَرَب خَاصَّة , وَالْحَصْر فِي قَوْلهمْ إِلَّا الْيَهُود هُوَ بِمُقْتَضَى عِلْمهمْ ; لِأَنَّ الْيَهُود كَانُوا بِإِيلِيَاء وَهِيَ بَيْت الْمَقْدِس كَثِيرِينَ تَحْت الذِّلَّة مَعَ الرُّوم , بِخِلَافِ الْعَرَب فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ تَحْت طَاعَة مَلِك الرُّوم كَآلِ غَسَّان لَكِنَّهُمْ كَانُوا مُلُوكًا بِرَأْسِهِمْ .
قَوْله : ( فَلَا يُهِمَّنَّك )
بِضَمِّ أَوَّله , مِنْ أَهَمَّ : أَثَارَ الْهَمّ . وَقَوْله " شَأْنهمْ " أَيْ : أَمْرهمْ . وَ " مَدَائِن " جَمْع مَدِينَة قَالَ أَبُو عَلِيّ الْفَارِسِيّ : مَنْ جَعَلَهُ فَعِيلَة مِنْ قَوْلك مَدَن بِالْمَكَانِ أَيْ : أَقَامَ بِهِ هَمَزَهُ كَقَبَائِل , وَمَنْ جَعَلَهُ مُفْعِلَة مِنْ قَوْلك دِينَ أَيْ : مُلِكَ لَمْ يَهْمِز كَمَعَايِش . اِنْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعَايِش هُوَ الْمَشْهُور , وَقَدْ رَوَى خَارِجَة عَنْ نَافِع الْقَارِي الْهَمْز فِي مَعَايِش , وَقَالَ الْقَزَّاز : مَنْ هَمَزَهَا تَوَهَّمَهَا مِنْ فَعِيلَة لِشَبَهِهَا بِهَا فِي اللَّفْظ . اِنْتَهَى .
قَوْله : ( فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرهمْ )
أَيْ : فِي هَذِهِ الْمَشُورَة .
قَوْله : ( أُتِيَ هِرَقْل بِرَجُلٍ )
لَمْ يَذْكُر مَنْ أَحْضَرَهُ . وَمَلِك غَسَّان هُوَ صَاحِب بُصْرَى الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْره , وَأَشَرْنَا إِلَى أَنَّ اِبْن السَّكَن رَوَى أَنَّهُ أَرْسَلَ مِنْ عِنْده عَدِيّ بْن حَاتِم , فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هُوَ الْمَذْكُور وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( عَنْ خَبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
فَسَّرَ ذَلِكَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته فَقَالَ : خَرَجَ مِنْ بَيْن أَظْهُرنَا رَجُل يَزْعُم أَنَّهُ نَبِيّ , فَقَدْ اِتَّبَعَهُ نَاس , وَخَالَفَهُ نَاس , فَكَانَتْ بَيْنهمْ مَلَاحِم فِي مَوَاطِن , فَتَرَكَهُمْ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . فَبَيَّنَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيث الْبَاب لِأَنَّهُ يُوهِم أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِل مَا ظَهَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي رِوَايَة أَنَّهُ قَالَ : جَرِّدُوهُ , فَإِذَا هُوَ مُخْتَتِن , فَقَالَ : هَذَا وَاَللَّه الَّذِي رَأَيْته , أَعْطِهِ ثَوْبه .
قَوْله : ( هُمْ يَخْتَتِنُونَ )
فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ " هُمْ مُخْتَتِنُونَ " بِالْمِيمِ وَالْأَوَّل أَفْيَد وَأَشْمَل .
قَوْله : ( هَذَا مُلْك هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ ظَهَرَ )
كَذَا لِأَكْثَر الرُّوَاة بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُون , وَلِلْقَابِسِيّ بِالْفَتْحِ ثُمَّ الْكَسْر , وَلِأُبَيّ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيّ وَحْده يَمْلِك فِعْل مُضَارِع , قَالَ الْقَاضِي : أَظُنّهَا ضَمَّة الْمِيم اِتَّصَلَتْ بِهَا فَتَصَحَّفَتْ , وَوَجَّهَهُ السُّهَيْلِيّ فِي أَمَالِيهِ بِأَنَّهُ مُبْتَدَأ وَخَبَر , أَيْ هَذَا الْمَذْكُور يَمْلِك هَذِهِ الْأُمَّة . وَقِيلَ يَجُوز أَنْ يَكُون يَمْلِك نَعْتًا , أَيْ هَذَا رَجُل يَمْلِك هَذِهِ الْأُمَّة . وَقَالَ شَيْخنَا : يَجُوز أَنْ يَكُون الْمَحْذُوف هُوَ الْمَوْصُول عَلَى رَأْي الْكُوفِيِّينَ , أَيْ هَذَا الَّذِي يَمْلِك , وَهُوَ نَظِير قَوْله " وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيق " . عَلَى أَنَّ الْكُوفِيِّينَ يُجَوِّزُونَ اِسْتِعْمَال اِسْم الْإِشَارَة بِمَعْنَى الِاسْم الْمَوْصُول , فَيَكُون التَّقْدِير الَّذِي يَمْلِك , مِنْ غَيْر حَذْف , قُلْت : لَكِنَّ اِتِّفَاق الرُّوَاة عَلَى حَذْف الْيَاء فِي أَوَّله دَالّ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِي فَيَكُون شَاذًّا . عَلَى أَنَّنِي رَأَيْت فِي أَصْل مُعْتَمَد وَعَلَيْهِ عَلَامَة السَّرَخْسِيّ بِبَاءٍ مُوَحَّدَة فِي أَوَّله , وَتَوْجِيههَا أَقْرَب مِنْ تَوْجِيه الْأَوَّل ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُون الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَظَره فِي حُكْم النُّجُوم , وَالْبَاء مُتَعَلِّقَة بِظَهَرَ , أَيْ : هَذَا الْحُكْم ظَهَرَ بِمُلْكِ هَذِهِ الْأُمَّة الَّتِي تَخْتَتِن .
قَوْله : ( بِرُومِيَةَ )
بِالتَّخْفِيفِ , وَهِيَ مَدِينَة مَعْرُوفَة لِلرُّومِ . وَحِمْص مَجْرُور بِالْفَتْحَةِ مُنِعَ صَرْفه لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيث . وَيُحْتَمَل أَنْ يَجُوز صَرْفه
قَوْله : ( فَلَمْ يَرِمْ )
بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الرَّاء أَيْ : لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانه , هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف , وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : لَمْ يَصِلْ إِلَى حِمْص وَزَيَّفُوهُ .
قَوْله : ( حَتَّى أَتَاهُ كِتَاب مِنْ صَاحِبه )
وَفِي حَدِيث دِحْيَة الَّذِي أَشَرْت إِلَيْهِ قَالَ : فَلَمَّا خَرَجُوا أَدْخَلَنِي عَلَيْهِ وَأَرْسَلَ إِلَيَّ الْأُسْقُف وَهُوَ صَاحِب أَمْرهمْ فَقَالَ : هَذَا الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِر , وَبَشَّرَنَا بِهِ عِيسَى , أَمَّا أَنَا فَمُصَدِّقه وَمُتَّبِعه . فَقَالَ لَهُ قَيْصَر : أَمَّا أَنَا إِنْ فَعَلْت ذَلِكَ ذَهَبَ مُلْكِي , فَذَكَرَ الْقِصَّة , وَفِي آخِره : فَقَالَ لِي الْأُسْقُف : خُذْ هَذَا الْكِتَاب وَاذْهَبْ إِلَى صَاحِبك فَاقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَخْبِرْهُ أَنِّي أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , وَأَنِّي قَدْ آمَنْت بِهِ وَصَدَّقْته , وَأَنَّهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا عَلَيَّ ذَلِكَ . ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُ . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّ هِرَقْل أَرْسَلَ دِحْيَة إِلَى ضُغَاطِر الرُّومِيّ وَقَالَ : إِنَّهُ فِي الرُّوم أَجْوَز قَوْلًا مِنِّي , وَإِنَّ ضُغَاطِر الْمَذْكُور أَظْهَرَ إِسْلَامه وَأَلْقَى ثِيَابه الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَابًا بِيضًا وَخَرَجَ عَلَى الرُّوم فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وَشَهِدَ شَهَادَة الْحَقّ , فَقَامُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ . قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ دِحْيَة إِلَى هِرَقْل قَالَ لَهُ : قَدْ قُلْت لَك إِنَّا نَخَافهُمْ عَلَى أَنْفُسنَا , فَضُغَاطِر كَانَ أَعْظَم عِنْدهمْ مِنِّي . قُلْت : فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هُوَ صَاحِب رُومِيَة الَّذِي أُبْهِمَ هُنَا , لَكِنْ يُعَكِّر عَلَيْهِ مَا قِيلَ إِنَّ دِحْيَة لَمْ يَقْدَم عَلَى هِرَقْل بِهَذَا الْكِتَاب الْمَكْتُوب فِي سَنَة الْحُدَيْبِيَة , وَإِنَّمَا قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوب فِي غَزْوَة تَبُوك , فَالرَّاجِح أَنَّ دِحْيَة قَدِمَ عَلَى هِرَقْل أَيْضًا فِي الْأُولَى , فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَل أَنْ تَكُون وَقَعَتْ لِكُلٍّ مِنْ الْأُسْقُف وَمِنْ ضُغَاطِر قِصَّة قُتِلَ كُلّ مِنْهُمَا بِسَبَبِهَا , أَوْ وَقَعَتْ لِضُغَاطِر قِصَّتَانِ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن النَّاطُور وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَا أَنَّهُ قُتِلَ , وَالثَّانِيَة الَّتِي ذَكَرَهَا اِبْن إِسْحَاق فَإِنَّ فِيهَا قِصَّته مَعَ دِحْيَة وَأَنَّهُ أَسْلَمَ وَقُتِلَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( وَسَارَ هِرَقْل إِلَى حِمْص )
لِأَنَّهَا كَانَتْ دَار مُلْكه كَمَا قَدَّمْنَاهُ , وَكَانَتْ فِي زَمَانهمْ أَعْظَم مِنْ دِمَشْق . وَكَانَ فَتْحهَا عَلَى يَد أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح سَنَة سِتّ عَشْرَة بَعْد هَذِهِ الْقِصَّة بِعَشْرِ سِنِينَ .
قَوْله : ( وَأَنَّهُ نَبِيّ )
يَدُلّ عَلَى أَنَّ هِرَقْل وَصَاحِبه أَقَرَّا بِنُبُوَّةِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَكِنَّ هِرَقْل كَمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَسْتَمِرّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ صَاحِبه .
قَوْله : ( فَأَذِنَ )
هِيَ بِالْقَصْرِ مِنْ الْإِذْن , وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ وَغَيْره بِالْمَدِّ وَمَعْنَاهُ أَعْلَمَ . وَ " الدَّسْكَرَة " بِسُكُونِ السِّين الْمُهْمَلَة الْقَصْر الَّذِي حَوْله بُيُوت , وَكَأَنَّهُ دَخَلَ الْقَصْر ثُمَّ أَغْلَقَهُ وَفَتَحَ أَبْوَاب الْبُيُوت الَّتِي حَوْله وَأَذِنَ لِلرُّومِ فِي دُخُولهَا ثُمَّ أَغْلَقَهَا ثُمَّ اِطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَخَاطَبَهُمْ , وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ خَشْيَة أَنْ يَثِبُوا بِهِ كَمَا وَثَبُوا بِضُغَاطِر .
قَوْله : ( وَالرَّشَد ) [color=indigo]
بِفَتْحَتَيْنِ ( وَأَنْ يَثْبُت مُلْككُمْ ) لِأَنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى الْكُفْر كَانَ سَبَبًا لِذَهَابِ مُلْكهمْ , كَمَا عَرِفَ هُوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَار السَّابِقَة .
قَوْله : ( فَتُبَايِعُوا )
بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَة , ولِلْكُشْمِيهَنِيّ بِمُثَنَّاتَيْنِ وَمُوَحَّدَة , وَلِلْأَصِيلِيِّ " فَنُبَايِع " بِنُونٍ وَمُوَحَّدَة ( لِهَذَا النَّبِيّ ) كَذَا لِأَبِي ذَرّ وَلِلْبَاقِينَ بِحَذْفِ اللَّام .
قَوْله : ( فَحَاصُوا )
بِمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ : نَفَرُوا , وَشَبَّهَهُمْ بِالْوُحُوشِ لِأَنَّ نَفْرَتهَا أَشَدّ مِنْ نَفْرَة الْبَهَائِم الْإِنْسِيَّة , وَشَبَّهَهُمْ بِالْحُمْرِ دُون غَيْرهَا مِنْ الْوُحُوش لِمُنَاسَبَةِ الْجَهْل وَعَدَم الْفِطْنَة بَلْ هُمْ أَضَلّ .
قَوْله : ( وَأَيِسَ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ وَالْأَصِيلِيّ " وَيَئِسَ " بِيَائَيْنِ تَحْتَانِيَّتَيْنِ وَهُمَا بِمَعْنَى قَنَطَ وَالْأَوَّل مَقْلُوب مِنْ الثَّانِي .
قَوْله : ( مِنْ الْإِيمَان )
أَيْ : مِنْ إِيمَانهمْ لِمَا أَظْهَرُوهُ , وَمِنْ إِيمَانه لِأَنَّهُ شَحَّ بِمُلْكِهِ كَمَا قَدَّمْنَا , وَكَانَ يُحِبّ أَنْ يُطِيعُوهُ فَيَسْتَمِرّ مُلْكه وَيَسْلَم وَيَسْلَمُوا بِإِسْلَامِهِمْ , فَمَا أَيِسَ مِنْ الْإِيمَان إِلَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي أَرَادَهُ , وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفِرّ عَنْهُمْ وَيَتْرُك مُلْكه رَغْبَة فِيمَا عِنْد اللَّه وَاَللَّه الْمُوَفِّق .
قَوْله : ( آنِفًا )
أَيْ : قَرِيبًا , وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال .
قَوْله : ( فَقَدْ رَأَيْت )
زَادَ فِي التَّفْسِير : فَقَدْ رَأَيْت مِنْكُمْ الَّذِي أَحْبَبْت .
قَوْله : ( فَكَانَ ذَلِكَ آخِر شَأْن هِرَقْل )
أَيْ : فِيمَا يَتَعَلَّق بِهَذِهِ الْقِصَّة الْمُتَعَلِّقَة بِدُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَان خَاصَّة ; لِأَنَّهُ اِنْقَضَى أَمْره حِينَئِذٍ وَمَاتَ , أَوْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْآخِرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي عِلْمه , وَهَذَا أَوْجَه ; لِأَنَّ هِرَقْل وَقَعَتْ لَهُ قَصَص أُخْرَى بَعْد ذَلِكَ , مِنْهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَجْهِيزه الْجُيُوش إِلَى مُؤْتَة وَمِنْ تَجْهِيزه الْجُيُوش أَيْضًا إِلَى تَبُوك , وَمُكَاتَبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثَانِيًا , وَإِرْسَاله إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَهَبٍ فَقَسَّمَهُ بَيْن أَصْحَابه كَمَا فِي رِوَايَة اِبْن حِبَّانَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا قَبْل وَأَبِي عُبَيْد , وَفِي الْمُسْنَد مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن أَبِي رَاشِد التَّنُوخِيّ رَسُول هِرَقْل قَالَ : قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوك فَبَعَثَ دِحْيَة إِلَى هِرَقْل فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَاب دَعَا قِسِّيسِي الرُّوم وَبَطَارِقَتِهَا , فَذَكَرَ الْحَدِيث , قَالَ فَتَحَيَّرُوا حَتَّى أَنَّ بَعْضهمْ خَرَجَ مِنْ بُرْنُسه , فَقَالَ : اُسْكُتُوا , فَإِنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَعْلَمَ تَمَسُّككُمْ بِدِينِكُمْ . وَرَوَى اِبْن إِسْحَاق عَنْ خَالِد بْن بَشَّار عَنْ رَجُل مِنْ قُدَمَاء الشَّام أَنَّ هِرَقْل لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج مِنْ الشَّام إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة عَرَضَ عَلَى الرُّوم أُمُورًا : إِمَّا الْإِسْلَام وَإِمَّا الْجِزْيَة , وَإِمَّا أَنْ يُصَالِح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَبْقَى لَهُمْ مَا دُون الدَّرْب , فَأَبَوْا , وَأَنَّهُ اِنْطَلَقَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الدَّرْب اِسْتَقْبَلَ أَرْض الشَّام ثُمَّ قَالَ : السَّلَام عَلَيْك أَرْض سُورِيَّة - يَعْنِي الشَّام - تَسْلِيم الْمُوَدِّع , ثُمَّ رَكَضَ حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّة . وَاخْتَلَفَ الْأَخْبَارِيُّونَ هَلْ هُوَ الَّذِي حَارَبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي زَمَن أَبِي بَكْر وَعُمَر أَوْ اِبْنه , وَالْأَظْهَر أَنَّهُ هُوَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
( تَنْبِيه )
لَمَّا كَانَ أَمْر هِرَقْل فِي الْإِيمَان عِنْد كَثِير مِنْ النَّاس مُسْتَبْهَمًا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَدَم تَصْرِيحه بِالْإِيمَانِ لِلْخَوْفِ عَلَى نَفْسه مِنْ الْقَتْل , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون اِسْتَمَرَّ عَلَى الشَّكّ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا , وَقَالَ الرَّاوِي فِي آخِر الْقِصَّة فَكَانَ ذَلِكَ آخِر شَأْن هِرَقْل , خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيّ هَذَا الْبَاب الَّذِي اِسْتَفْتَحَهُ بِحَدِيثِ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنْ صَدَقَتْ نِيَّته اِنْتَفَعَ بِهَا فِي الْجُمْلَة , وَإِلَّا فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ . فَظَهَرَتْ مُنَاسَبَة إِيرَاد قِصَّة اِبْن النَّاطُور فِي بَدْء الْوَحْي لِمُنَاسَبَتِهَا حَدِيث الْأَعْمَال الْمُصَدَّر الْبَاب بِهِ . وَيُؤْخَذ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ آخِر لَفْظ فِي الْقِصَّة بَرَاعَة الِاخْتِتَام , وَهُوَ وَاضِح مِمَّا قَرَّرْنَاهُ . فَإِنْ قِيلَ : مَا مُنَاسَبَة حَدِيث أَبِي سُفْيَان فِي قِصَّة هِرَقْل بِبَدْءِ الْوَحْي ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ كَيْفِيَّة حَال النَّاس مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاء ; وَلِأَنَّ الْآيَة الْمَكْتُوبَة إِلَى هِرَقْل لِلدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام مُلْتَئِمَة مَعَ الْآيَة الَّتِي فِي التَّرْجَمَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ ) الْآيَة . وَقَالَ تَعَالَى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) الْآيَة , فَبَانَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ كُلّهمْ أَنْ أَقِيمُوا الدِّين , وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ( سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُمْ ) الْآيَة .
( تَكْمِيل )
ذَكَرَ السُّهَيْلِيّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ هِرَقْل وَضَعَ الْكِتَاب فِي قَصَبَة مِنْ ذَهَب تَعْظِيمًا لَهُ , وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَتَوَارَثُونَهُ حَتَّى كَانَ عِنْد مَلِك الْفِرِنْج الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى طُلَيْطُلَة , ثُمَّ كَانَ عِنْد سَبْطه , فَحَدَّثَنِي بَعْض أَصْحَابنَا أَنَّ عَبْد الْمَلِك بْن سَعْد أَحَد قُوَّاد الْمُسْلِمِينَ اِجْتَمَعَ بِذَلِكَ الْمَلِك فَأَخْرَجَ لَهُ الْكِتَاب , فَلَمَّا رَآهُ اِسْتَعْبَرَ وَسَأَلَ أَنْ يُمَكِّنهُ مِنْ تَقْبِيله , فَامْتَنَعَ . قُلْت : وَأَنْبَأَنِي غَيْر وَاحِد عَنْ الْقَاضِي نُور الدِّين بْن الصَّائِغ الدِّمَشْقِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي سَيْف الدِّين فُلَيْح الْمَنْصُورِيّ قَالَ : أَرْسَلَنِي الْمَلِك الْمَنْصُور قَلَاوُون إِلَى مَلِك الْغَرْب بِهَدِيَّةٍ , فَأَرْسَلَنِي مَلِك الْغَرْب إِلَى مَلِك الْفِرِنْج فِي شَفَاعَة فَقَبِلَهَا , وَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِقَامَة عِنْده فَامْتَنَعْت , فَقَالَ لِي : لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سُنِّيَّة , فَأَخْرَجَ لِي صُنْدُوقًا مُصَفَّحًا بِذَهَبٍ , فَأَخْرَجَ مِنْهُ مِقْلَمَة ذَهَب , فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَتْ أَكْثَر حُرُوفه وَقَدْ اِلْتَصَقَتْ عَلَيْهِ خِرْقَة حَرِير فَقَالَ : هَذَا كِتَاب نَبِيّكُمْ إِلَى جَدِّي قَيْصَر , مَا زِلْنَا نَتَوَارَثهُ إِلَى الْآن , وَأَوْصَانَا آبَاؤُنَا أَنَّهُ مَا دَامَ هَذَا الْكِتَاب عِنْدنَا لَا يَزَال الْمُلْك فِينَا , فَنَحْنُ نَحْفَظهُ غَايَة الْحِفْظ وَنُعَظِّمهُ وَنَكْتُمهُ عَنْ النَّصَارَى لِيَدُومَ الْمُلْك فِينَا . اِنْتَهَى . وَيُؤَيِّد هَذَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيث سَعِيد بْن أَبِي رَاشِد الَّذِي أَشَرْت إِلَيْهِ آنِفًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى التَّنُوخِيّ رَسُول هِرَقْل الْإِسْلَام فَامْتَنَعَ , فَقَالَ لَهُ : يَا أَخَا تَنُوخ إِنِّي كَتَبْت إِلَى مَلِككُمْ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا , فَلَنْ يَزَال النَّاس يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْش خَيْر . وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب الْأَمْوَال مِنْ مُرْسَل عُمَيْر بْن إِسْحَاق قَالَ : كَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَر , فَأَمَّا كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب مَزَّقَهُ , وَأَمَّا قَيْصَر فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَاب طَوَاهُ ثُمَّ رَفَعَهُ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُمَزَّقُونَ , وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَسَتَكُونُ لَهُمْ بَقِيَّة , وَيُؤَيِّدهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ جَوَاب كِسْرَى قَالَ : مَزَّقَ اللَّه مُلْكه . وَلَمَّا جَاءَهُ جَوَاب هِرَقْل قَالَ : ثَبَّتَ اللَّه مُلْكه . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( رَوَاهُ صَالِح بْن كَيْسَانَ وَيُونُس وَمَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ )
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ يَحْتَمِل ذَلِكَ وَجْهَيْنِ : أَنْ يَرْوِيَ الْبُخَارِيّ عَنْ الثَّلَاثَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور كَأَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان أَخْبَرَنَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عَنْ الزُّهْرِيّ , وَأَنْ يَرْوِي عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ آخَر . كَمَا أَنَّ الزُّهْرِيّ يَحْتَمِل أَيْضًا فِي رِوَايَة الثَّلَاثَة أَنْ يَرْوِي لَهُمْ عَنْ عُبَيْد اللَّه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَأَنْ يَرْوِي لَهُمْ عَنْ غَيْره . هَذَا مَا يَحْتَمِل اللَّفْظ , وَإِنْ كَانَ الظَّاهِر الِاتِّحَاد . قُلْت : هَذَا الظَّاهِر كَافٍ لِمَنْ شَمَّ أَدْنَى رَائِحَة مِنْ عِلْم الْإِسْنَاد . وَالِاحْتِمَالَات الْعَقْلِيَّة الْمُجَرَّدَة لَا مَدْخَل لَهَا فِي هَذَا الْفَنّ , وَأَمَّا الِاحْتِمَال الْأَوَّل فَأَشَدّ بُعْدًا ; لِأَنَّ أَبَا الْيَمَان لَمْ يَلْحَق صَالِح بْن كَيْسَانَ وَلَا سَمِعَ مِنْ يُونُس , وَهَذَا أَمْر يَتَعَلَّق بِالنَّقْلِ الْمَحْض فَلَا يُلْتَفَت إِلَى مَا عَدَاهُ , وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّقْل لَاطَّلَعَ عَلَى كَيْفِيَّة رِوَايَة الثَّلَاثَة لِهَذَا الْحَدِيث بِخُصُوصِهِ فَاسْتَرَاحَ مِنْ هَذَا التَّرَدُّد , وَقَدْ أَوْضَحْت ذَلِكَ فِي كِتَابِي تَعْلِيق التَّعْلِيق وَأُشِير هُنَا إِلَيْهِ إِشَارَة مُفْهِمَة : فَرِوَايَة صَالِح وَهُوَ اِبْن كَيْسَانَ أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّف فِي كِتَاب الْجِهَاد بِتَمَامِهَا مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ صَالِح بْن كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَفِيهَا مِنْ الْفَوَائِد الزَّوَائِد مَا أَشَرْت إِلَيْهِ فِي أَثْنَاء الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث مِنْ قَبْل ; وَلَكِنَّهُ اِنْتَهَى حَدِيثه عِنْد قَوْل أَبِي سُفْيَان " حَتَّى أَدْخَلَ اللَّه عَلَيَّ الْإِسْلَام " زَادَ هُنَا " وَأَنَا كَارِه " وَلَمْ يَذْكُر قِصَّة اِبْن النَّاطُور . وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِدُونِهَا مِنْ حَدِيث إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور , وَرِوَايَة يُونُس أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّف فِي الْجِهَاد مُخْتَصَرَة مِنْ طَرِيق اللَّيْث , وَفِي الِاسْتِئْذَان مُخْتَصَرَة أَيْضًا مِنْ طَرِيق اِبْن الْمُبَارَك كِلَاهُمَا عَنْ يُونُس عَنْ الزُّهْرِيّ بِسَنَدِهِ بِعَيْنِهِ , وَلَمْ يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ , وَقَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ الطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن صَالِح عَنْ اللَّيْث , وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّة اِبْن النَّاطُور , وَرِوَايَة مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ كَذَلِكَ سَاقَهَا الْمُؤَلِّف بِتَمَامِهَا فِي التَّفْسِير , وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى بَعْض فَوَائِد زَائِدَة فِيمَا مَضَى أَيْضًا , وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ قِصَّة اِبْن النَّاطُور قِطْعَة مُخْتَصَرَة عَنْ الزُّهْرِيّ مُرْسَلَة . فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ أَبَا الْيَمَان مَا رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ وَاحِد مِنْ الثَّلَاثَة , وَأَنَّ الزُّهْرِيّ إِنَّمَا رَوَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِسَنَدٍ وَاحِد عَنْ شَيْخ وَاحِد وَهُوَ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه , وَأَنَّ أَحَادِيث الثَّلَاثَة عِنْد الْمُصَنِّف عَنْ غَيْر أَبِي الْيَمَان , وَلَوْ احْتَمَلَ أَنْ يَرْوِيه لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ عَنْ شَيْخ آخَر لَكَانَ ذَلِكَ اِخْتِلَافًا قَدْ يُفْضِي إِلَى الِاضْطِرَاب الْمُوجِب لِلضَّعْفِ , فَلَاحَ فَسَاد ذَلِكَ الِاحْتِمَال , وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْمُوَفِّق وَالْهَادِي إِلَى الصَّوَاب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ .
مواضيع مماثلة
» بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى
» مجموعة سلاسل علمية فى العقيدة , للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
» رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهاته
» قصة أم الجماجم و حب في المقابر (رمانسية-مرعبة-مشوقة) متجدد تابع
» قصة أم الجماجم و حب في المقابر (رمانسية-مرعبة-مشوقة) متجدد تابع
» مجموعة سلاسل علمية فى العقيدة , للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
» رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهاته
» قصة أم الجماجم و حب في المقابر (رمانسية-مرعبة-مشوقة) متجدد تابع
» قصة أم الجماجم و حب في المقابر (رمانسية-مرعبة-مشوقة) متجدد تابع
منتديات ستار اليكس Forums Star Alex :: (¯`·._) ( القسم الاسلاامى ) (¯`·._) :: منتدى ستار الاحاديث والسيرة النبوية الشريفة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى